أثر الشهادات العليا في الأمن الثقافي
أكرم الزعبي
05-01-2025 04:33 PM
لا يكاد يخلو بيتٌ أردنيٌ من حاملٍ أو أكثرَ لشهادة الماجستيرِ أو الدكتوراه، والغالبُ الأعظمُ لهذه الشهاداتِ هو العلومُ الإنسانيةُ كالأدبِ العربيّ واللغةِ الإنجليزيةِ والحقوقِ والتاريخِ والتربيةِ وغيرها، ولا تكادُ تخلو مدرسةٌ حكوميةٌ أو خاصةٌ من حاملي هذه الشهاداتِ، فما الذي أضافتهُ هذهِ الشهاداتُ إلى المعرفةِ والعلوم؟، وما هو أثرُ هذه الشهاداتِ على الواقعِ التعليمي؟.
قبلَ الإجابةِ على هذه التساؤلاتِ، فإنّ السؤالَ الأكبرَ : ما هو أثرُ الشهاداتِ العلميةِ العليا كالطبّ والهندسةِ والصيدلةِ والرياضياتِ والأحياءِ في البيئة الحياتية؟، ولماذا لا نساهمُ – هنا في بلادنا - ولو قليلًا، بمنجَزٍ علميٍ يكونُ له أثرٌ واضحُ المعالمِ على البشريةِ كلّها؟
ربما يكونُ الجوابُ السهلُ هو ضعفُ أو قلّةُ المواردِ الماليّةِ للجامعاتِ ذاتِ التخصصاتِ العلميةِ، وعدمِ وجودِ مراكزَ أبحاثٍ ودراساتٍ متخصصة، لكن ما الذي يمنعُ الجامعاتِ الأردنيّةِ الحكوميةِ والخاصّةِ، والتي تقاربُ في عددها الثلاثينَ جامعة، وعماداتِ دراساتِها العليا، من إنشاءِ مركزِ أبحاثٍ ودراساتٍ مشتركٍ، ممولٍ منها جميعًا، يعملُ على الدراساتِ التطبيقيةِ العمليةِ بدلَ الدراساتِ النظريةِ التي تظلّ حبيسةَ ورقِها، و لا تستفيدُ منها الجامعةُ ولا حتّى الباحثُ نفسه؟.
بالعودةِ إلى العلومِ الإنسانيّةِ، فإنّ آلافَ ومئاتِ آلافِ الشهاداتِ العليا لم تستطع حتى اللحظة تقديمَ نظريةٍ نقديةٍ جديدةٍ في الأدبِ العربيّ مثلًا، ولا إعادةَ قراءةِ التاريخِ ضمنَ أصولٍ منهجيةٍ علميةٍ، وتصحيحَ ما لا يقبلهُ العقلُ البشريّ السليم، ولا صياغةَ نظرياتٍ قانونيةٍ أو اقتراحَ تشريعاتٍ تتواءم مع الحياةِ اليوميّةِ وتطورها، ولا حتى على وضع أسسٍ للإدارةِ الحكيمةِ الراشدة.
هذا عدا عن أنّ مخرجاتِ التعليم والتعليم العالي، في حالة تردٍ مستمرٍ رغم أنّ الزمن يسير بنا للأمام، فلا استطعنا أن نظلّ في مكانِنا يوم أن كنّا من روّاد التعليم، ولا استطعنا مواكبةَ التعليمِ الإنسانيّ الحديث، الذي بدأ بالتخلّي عن المناهجِ الورقيةِ التقليديّةِ لصالحِ التعلّم بالتفكيرِ والبحث العلميّين.
لن اتّهمَ الحكوماتِ بالتخلّي عن مسؤولياتها أو عن تقصيرها، فهذا وإن كان صحيحًا إلى حدٍ ما، إلّا أنّ حاملَ الشهادة، وخاصةً العليا منها، شريكٌ في التقصيرِ والمسؤوليةِ، لأنّ أثر الشهادةِ التي يحمِلها لا يجوزُ أن يقتصرَ على البحثِ عن وظيفةِ مدرّسٍ في الجامعة، أو الحصولِ على زيادةٍ ماليةٍ في المؤسسة التي يعمل فيها، وإنّما أن يظهرَ أثرُ هذه الشهادةِ على المتعلّمينَ الذين تحتَ يديهِ، وعلى المحيطِ الذي يعيشُ فيه، وهذا يفرضُ وجوبَ التخلّي قليلًا عن الأنانيةِ الشخصيةِ، والنظرِ بعين الاعتبارِ إلى الجانب الأخلاقيّ والإنسانيّ عند حاملِ الشهادةِ العليا، لأنّ أُسّ العمليةِ التعليميةِ في أيّ مكانٍ في العالمِ هو المعلّمُ لا المنهاجُ المقرر، فالمعلّمُ الذي ينظرُ في العمليةِ التدريسيةِ إلى الجانب الماديٍّ دونَ الأخذِ بعينِ الاعتبارِ مسؤوليتهُ الوطنية وواجبهُ الدينيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ، ودوره المهم في تعزيزِ الأمن الثقافي، هو معلمٌّ فاشلٌ، لن يُنتجَ إلّا جيلًا فاشلًا، فاقدًا لأبسطِ أبجدياتِ العلمِ والأخلاق.
في هذه الفترةِ من التاريخِ، المليئةِ بالاضطراباتِ السياسيةِ والعسكريّةِ والجغرافيّةِ، وحتى الديموغرافيةِ منها، فإنّنا نحتاجُ إلى وطنٍ ثابتٍ مستقرٍ، قادرٍ على مواجهة الاضطراباتِ، مساعدٍ لقيادته في تحقيق هذا الاستقرار، من خلال الحرص الفرديّ والجمعيّ على تعزيزِ منظومةِ أمنهِ الثقافي، وبناءِ كفاءاتهِ البشريةِ على أرضٍ صلبة، جذورها في عمق الترابِ، وعيونها ترنو إلى السماء.
* رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين السابق