الاختلاف السياسي الحالي على مخرجات لجنة الحوار الوطني يعكس بوضوح التباين، بل والتضارب، بين رهانات اللاعبين الرئيسيين، سواء داخل الدولة أو قوى المعارضة.
ذلك، بالنسبة لي على الأقل، كان متوقعاً، وكتبت عنه سابقاً مقالاً بعنوان "الصفقة الغائبة"، إذ إنّ التسوية التي وصلت إليها لجنة الحوار، ومثّلت حلاً وسطاً بين المطالب الإصلاحية والتيار المحافظ، لم تحظ عملياً بمباركة المعارضة، ولا بارتياح الأوساط الرسمية في مراكز القرار، ما يعني أنّ هذه التوصيات هي – عملياً- في مهب الريح.
علينا أن نعترف هنا أنّ مخرجات لجنة الحوار، بالرغم مما فيها من إيجابيات وقفزات وفقرات مهمة، حتى في قانون الانتخاب، إلاّ أنّ نظام الانتخاب الحالي لا يمكّننا من الوصول إلى حكومة برلمانية حزبية، وتداول للسلطة، بعد الانتخابات النيابية المبكّرة المقبلة. وإذا أردنا أن نكون موضوعيين أكثر، فإنّ هنالك عقبات واقعية تتجاوز فقط قانون الانتخاب، وتتمثل في محدودية الأحزاب وأسئلة حول عدم قدرتها على تشكيل روافع لمثل هذه النقلة السياسية، بالطبع باستثناء جماعة الإخوان المسلمين، التي ما تزال الدوائر الرسمية ترفعها كـ"فزّاعة" أمام المطالبين بقائمة وطنية نسبية كبرى، بالإضافة إلى الهاجس الديمغرافي- هوية البرلمان والدولة.
ما هو تقدير الموقف حالياً؟ نحن أمام أسابيع حاسمة، فالدولة تريد بناء "روزنامة" المرحلة السياسية المقبلة، والترتيب لانتخابات بلدية ونيابية مبكرة، للدخول في مرحلة جديدة ضمن سقف سياسي معقول، سواء تمّ تطبيق النظام الانتخابي المنبثق عن لجنة الحوار الوطني (أستبعد تماماً!)، أو "الصيغة البديلة" (إبقاء الصوت الواحد- أكثرية المحافظة، مع القائمة الوطنية)، التي أرفقها رئيس اللجنة طاهر المصري، بذكاء، وهدوء، حاول تمريرها كمخرج للدولة، فيما إذا لم تعبر الصيغة الرسمية، إلاّ أنّ الزميل جميل النمري التقط ذلك بذكاء.
إلى حين إقرار الحزمة الجديدة من التشريعات والتعديلات الدستورية والانطلاق في مرحلة جديدة، فإنّ أحزاب المعارضة وجماعة الإخوان المسلمين بدرجة رئيسة، أعلنوا رفض مخرجات الحوار ونظام الانتخاب، وخلصوا إلى "عدم جدية الدولة في الإصلاح"، والنتيجة هي الرهان على الحراك السياسي الشعبي، ورفع سقف الضغوطات على "مطبخ القرار" من أجل تحصيل نتائج أكبر، وتغيير هيكلي ونوعي حقيقي.
الرهان الإخواني والمعارض يتمركز حالياً في إمكانية بناء تحالفات جبهوية مع الحراك الجديد في المحافظات والجنوب، الذي بدأ بالصعود والمطالبة بسقوف مرتفعة من الإصلاح السياسي، وصولاً إلى توحيد الأجندة الإصلاحية بين شرائح المجتمع المختلفة، وتفويت سيناريو ما حدث بعد أحداث 25 آذار (مارس) الماضي. على الطرف الآخر، فإنّ رهان الدولة يكمن في المضي خطوات في طريق الإصلاح، الذي تحدده وترسمه هي (من جهة)، وعلى التباين بين المطالب ذات الطابع السياسي وتلك الاقتصادية، ما يجعل من تحسين الوضع الاقتصادي عاملاً رئيساً في تهدئة حراك الجنوب.
بالطبع، لا يمكن استبعاد "العامل الاقتصادي" (الفقر، البطالة، الجوع، ضعف التنمية) من حراك الجنوب الحالي. لكن في المقابل، فإنّ القراءة الرسمية تقع بخطيئة سياسية إن هي اختزلت المسألة في هذا البعد، فهنالك جانب أهم، وهو الشعور بالتهميش السياسي والتجاهل والإهمال، والغضب الشديد من الفساد السياسي.
ما على صانعي القرار التنبه له هو أنّ صيغة المعادلة السياسية التي كانت تدير العلاقة مع المحافظات والعشائر قد انتهت، وأنّ هنالك ضرورة تجديد "العقد الاجتماعي"، على قواعد أكثر تحديداً ووضوحاً، وإعادة بناء خطاب الدولة وتعريف النخب التي تحمل هذا المشروع الوطني بصورته الجديدة.
m.aburumman@alghad.jo
(الغد)