سوريا.. يا درة الشرق وشامة الدنيا ... وجعك يوجعني يا غالية.. وأنين شقيقتك غزة العزّة يذبحني من الوريد إلى الوريد.. فيحار قلبي المذبوح على أي جانبيه يميل في ضوء ظلم الطغاة وعدوان الغزاة!
ومع ذلك أقول: الحمد لله على سلامة شام المجد من ظلم الطغاة حافظ الأسد وابنه المدحور بشار وشلّة الزبانية والشبيحة الطائفيين الذي اختطفوا العظيمة سوريا نيفاً وخمسين خريفاً موحشاً، فسلخوا جلد سوريا.. وذبحوا ناسها.. ونهبوا موجوداتها.. وسرقوا مصاغها.. وأفرغوا خزائنها.. واغتصبوا ياسمينها ... ونشفوا ماءها،، فاستحق الظالمون اللعنة الأبدية!!
وأقول كذلك بوركت السواعد السورية المخلصة التي كنست آثار حكم مستبد خيم ظلمه وظلامه على القلوب والأنفاس خمسة عقود وأَزيد كانت بضاعته المتداولة هي المكابس.. والدواليب ... والبراميل المتفجرة.. والكبتاغون... وحبال المشانق.. والخوازيق ... والزنازين المظلمة!!
سوريا ... يا ذات المجد.. لو كل قواميس الكون التقت كي تصف ظلم الطغاة بحقك لما استطاعت.. لأن الوجع يا غالية أكبر من أن تحيط به كل حروف الدنيا ... لذا سألوذ إلى بوابة الحنين الرحبة ومدار البوح الواسع لا تحدث عنك ولك يا غالية ... وأستذكر خواطر قومية ووجدانية مترعة بالحزن والفرح والأمل والألم ... أما المحور فهو أنت وأنت فقط يا فيحاء الزمان!!
لي فيك يا شام، فرح طوله ثلاثة أعوام هي الوحدة بين سوريا ومصر .. ولي فيك أيتها (الدار المسقيّة) حزن قومي مقيم في الفؤاد اسمه الانفصال!!
ولي فيك، يا مليحة الأوطان، أهل كرام وصفهم شاعر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الشاعر المخضرم حسان ابن ثابت أجود وصف حين قال:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف في الطراز الأول
لي فيك، ولنا جميعا، يا شامة الدنيا، طيف بطولة سطرها الشهيد الأسطوري يوسف العظمة الذي كان وزيراً للدفاع في المملكة السورية العربية بقيادة جلالة الملك فيصل الأول ابن الحسين طيب الله ثراهما.. نعم يوسف الرمز الوطني والقومي البهي. الذي قاد المتطوعين السوريين في معركة ميسلون التي دارت رحاها مع الجيش الفرنسي على أرض ميسلون الطاهرة فأبلى خلالها بلاء حسنا واستشهد على أرضها الطاهرة ليسجل التاريخ والمجد معاً بأن الشهيد البطل يوسف العظمة هو أول وآخر وزير دفاع عربي في العصر الحديث يستشهد في ساحة المعركة وحومة الوغى مع العدو!!
ولي فيك، يا فيحاء الدنيا، طيف روح قومية تلألأت في سماء اللاذقية التي أنجبت الفدائي الضابط جول جمال الذي انتخى لنجدة الشقيقة مصر أثناء العدوان الثلاثي الغاشم على أرض الكنانة، وسطر البطل السوري بدمه الطاهر سطراً عزيزاً في مدماك الوحدة بين سوريا ومصر حين انقض بطوربيده العسكري صوب البارجة الفرنسية المعتدية (جان بارت) فأحالها إلى خردة بائسة فهوت في قاع بحر السويس!!
واستشهد البطل جمال مع رفيقه البطل جلال الدسوقي.. فأخذت المآذن تكبر، والكنائس تدق الأجراس في (حلب) وسائر المدن السورية احتفاء بعرس الشهيدين جمال وجلال على أرض الكنانة!!
لي فيك، يا شام شريف، انتفاضة قومية عنوانها قبضة سطور عزيزة عن فلسطين الغالية وضرورة تحريرها من الغاصب المحتل سطرتها يد الشهيد وصفي التل على حائط الزنزانة في سجن المزة بدمشق حين اعتقله الرئيس السوري حسني الزعيم هو ورفاقه في جيش الإنقاذ الفلسطيني.. أما عن السبب إن سألت فهو أن وصفي ورفاقه العسكر رفضوا الهدنة مع العدو الصهيوني التي التزم بها الزعيم وأصروا على مواصلة العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني.. فأودعهم الرئيس السوري في سجن المزة، وكان على وشك تنفيذ حكم الإعدام بهم..
ولكن الله سلم ... فنجوا من الموت بأعجوبة روى تفاصيلها في وقت سابق معالي المرحوم محمد صبحي أبو غنيمة طيب الله ثراه.
ولي فيك يا ذات العماد، عبق قومي عزيز ينداح من قرية (ديفه) في محافظة اللاذقية التي أنجبت الدبلوماسي والنائب والمناضل ضد الاحتلال الفرنسي، وأحد أعلام الشعر العربي في القرن العشرين (بدوي الجبل) وصاحب القصيدة العصماء بعنوان (إني لأشمت بالجبار) نعم العملاق، محمد سليمان الأحمد الذي كان حافظ الأسد يغار منه كثيراً لأنه ينحدر من عائلة مرموقة، ويحقد عليه كثيرا لأسباب كثيرة يعرفها جيداً أبناء (القرداحة) بشكل خاص وأهل اللاذقية على وجه العموم!!
وبلغ الحقد عند (حافظ) حداً جعله يرسل زبانيته لاغتيال الشاعر الكبير في وضح النهار بينما كان يمارس رياضة المشي في حي أبو رمانة بدمشق.. ولم يكتف بذلك بل اغتال نجله (منير الأحمد) الإعلامي اللامع في إذاعة دمشق وهو على رأس عمله في العام 1992م أما عن السبب فهو أن (منير) كان يعرف هوية واسم قاتل أبيه!! وأكمل حافظ مسلسل الاغتيال الإجرامي بحق عائلة مرموقة من أبناء طائفته العلوية، حين طالت يد زبانيته شقيق (بدوي الجبل) واغتالته في (صوفيا) عاصمة بلغاريا في العام 1993 م واثنين من أبناء عائلة الأحمد.
ولي فيك، يا جُلّق، جبل قاسيون الأشم الذي كان يستضيفني على الدوام فأصعد على سنامه وأرى دمشق، الأرض والناس وهي تعانق السحاب ... وكان صديقي (قاسيون) يحدثني وأحدثه عن مجد سوريا التليد، قبل أن يحول نظام المكبس والدولاب (قاسيون) إلى منطقة محظورة يمنع الاقتراب منها حيث قصور الأسد المبثوثة فيها.. وتحتها سراديب وأنفاق وأقبية محشوة بالبراميل المتفجرة وأدوات صناعة الموت لذبح الناس وتعذيبهم دون ذنب اقترفوه!!
نعم.. كان قاسيون يحدثني عن مجد وبهاء سوريا وكنت بدوري أحدثه عن أقرانه رافعي الرؤوس (شيحان) العالي حارس الذاكرة التاريخية لبوابة الكرك، وجبل النار في نابلس صاحب الدور الوطني والقومي الفاعل خلال الحملة الفرنسية لاحتلال بلاد الشام، وعن جبل الزيتون الصامد الذي يجاور الأقصى المبارك، وعن جبال الخليل وإربد والشوبك ومؤآب والبلقاء الشامخة، وكانت مادة حديث العيون ولغة الخطاب الصامت بيني وبين (قاسيون) على الدوام عن القمم الشماء وناسها .. نعم القمم الباسقة فقط!! تاركين لغيرنا من المنافقين والطائفيين والشبيحة التزلف للسفوح!! أقصد سفوح البشر لا الجغرافيا!!
ولي فيك يا دمشق، بهاء ورونق المرجة، ساحة الشهداء وأحرار العرب، نعم المرجة الخالدة التي تزينت بالورد والياسمين ذات موسم قومي مشرق لاستقبال الملك فيصل إبن الحسين قائد جيوش العرب الذي وصل إلى دمشق في العام 1918 م وسط زغاريد الدمشقيات وترحيب أهل سوريا ... وكانت أهزوجة (زيّنوا المرجة.. والمرجة لنا) هي السلام الوطني والقومي آنذاك.. وكانت العنوان الرئيس لانتصار أجدادنا على جمال السفاح الذي علق المشانق واستباح الدماء العربية، فاندحر السفاح وولّى وبقيت سوريا الأبية ... وأثبت أحرار العرب أن لكل ظالم نهاية!!
ولي فيك، يا مدينة الياسمين، قلب تركته طواعية يمشي الهوينا عصر ذات يوم ربيعي في فضاء أبو رمانة وبوابة الصالحية وضفاف بردى يرقب الياسمين الدمشقي ... ويتابع الربيع وهو يتأرجح بين جدائل شامية.. وبعد مجيء نظام الطغاة حل الخريف القاسي واختفى قلبي ولا أدري أهو في صيدنايا أم المزة أم كفر سوسة أم في أقبية المكبس والدولاب والبراميل المتفجرة!!
ولي فيك، يا فيحاء الزمان، نهر الفردوس وشريان الشام، نهر بردى الذي كنت أطرح عليه السلام كل صباح في الستينات من القرن الماضي، فيرد صبا بردى عليّ السلام.. ويأخذ النهر الحبيب بيد القروي المفتون بداخلي.. ويصحبني من منعطف مدرسة التجهيز، إلى ضفته الشمالية التي ترشق وجنتي بياسمينها ورذاذها الأخاذ ثم نواصل المسير معاً يداً بيد نحو المتحف الحربي ثم حي الحلبوني وصولا إلى جامعة دمشق معشوقتي التي احتضنتني أربعة أعوام ما تزال عذوبتها وحلاوتها نديّة تداعب خيالي ووجداني!! ويودعني بردى عند بوابة الجامعة ثم يعود منفرداً إلى ضفافه!
نعم.. لي فيك يا جُلّق، نهر بردى الذي أعرف قسماته وسلسبيل مائه كما أعرف راحة يدي، نهر الفردوس الذي كان يطعم دمشق خبزاً.. ويرشق فراشاتها بالياسمين ويغازل النجوم في ليالي الشام المقمرة!! بردى صديقي ورفيق دربي اغتاله نظام حافظ أسد حين دلق في جوف النهر العظيم دماء الأبرياء وضحايا المكابس حتى تغير لونه الصافي إلى الأحمر.. فأعلن النهر حزنه وحداده وتضامنه مع الضحايا الأبرياء.. وجف دمع بردى ومداده.. ونشف الماء في عروقه!! آه يا بردى!!
بربكم، يا ناس، هل رأيتم أو سمعتم عن نظام يغتال النهر ويذبح الأطفال والياسمين غير نظام المكبس والدولاب والبراميل المتفجرة؟! وعلي أن أستدرك وأقول باستثناء نظام الكيان الصهيوني في تل أبيب الذي فاق النازية في العدوان والوحشية والظلم والهمجية!!
ولي فيك، يا جنة الأرض وشام النخوة صدى هدير أسطول صهاريج القمح التي اصطفت في مطلع الستينات من القرن الماضي على طريق (الشيخ مسكين) وحتى تخوم الرمثا والتي تنادت لنجدتنا حين أعلن السفير الأمريكي في عمان عن أن امدادات القمح الأمريكي إلى الأردن سوف تتوقف.. فسارع الغالي الشهيد وصفي التل طيب الله ثراه وانتخى بالأشقاء في سوريا.. وجاء المدد على عجل من الأخوة في الشمال فامتلأت صوامع الحنطة الحكومية وكواير البيوت في المملكة بقمح الأشقاء السوريين... ورددنا لهم الجميل في وقت لاحق!
ولي فيك، يا شام، حكاية طريفة جرت فصولها في منتصف السبعينات خلال زيارة رسمية لسوريا قام بها دولة المرحوم زيد الرفاعي ريس الوزراء الأسبق طيب الله ثراه وكنت أحد أعضاء الوفد الإعلامي المرافق.. فأقام السفير الأردني لدى سوريا واعتقد أنه كان معالي السيد علي خريس إذا لم تخنني الذاكرة حفل عشاء في منزله تكريماً للسيد الرفاعي، وكان من بين المدعووين الأستاذ فاروق الشرع، وفي مجال التعريف بيننا قلت له: أنا إسمي عبد السلام الطراونة ... فارتسمت على محياه ابتسامة عريضة وسألني على الفور: ما هي صلة القرابة بينك وبين الأستاذ إبراهيم سالم الطراونة؟ فقلت له إنه عمي المناضل القومي (أبو باسل) الذي أكن له كل التقدير والاحترام وهو بمثابة مثلي العالي ... وأردف يقول: هذا الرجل له موقف طيب معي وله دين في عنقي.. فهو الذي نسب اسمي للانخراط في حزب البعث العربي الاشتراكي.. ولا أظنك يا أخ عبد السلام إلا متأثراً بالأفكار والمبادئ النبيلة التي يحملها.. فأجبته على الفور: لست بعيداً عن الحقيقة يا معالي الأستاذ.. وقابلت ابتسامة الرضا والامتنان التي ارتسمت على محياه بابتسامة تقدير واحترام مماثلة من ناحيتي ... وتواصل الحديث بعد ذلك خلال تلك الأمسية الجميلة!
لي فيك، يا جُلّق، عبق ذكريات عطرة تهب نسماتها من جامعة دمشق.. الجامعة العريقة التي أحب.. حين كنا نتحلق حول أساتذة الجامعة الأفاضل د.المالح و د.السمهوري والبروفيسور الأمريكي الطيب د. ليو هاميليان الذي أَحب دمشق وناسها فاختار التدريس في كلية الآداب / قسم اللغة الإنجليزية حيث تتلمذت على أيدي هؤلاء الأفاضل وغيرهم من الزملاء مدة أربعة أعوام. وما زلت أذكر ابتسامة الأستاذ الأمريكي (هاميليان) وأنا أسلّمه ورقة البحث عن السنة الثانية في الكلية وكانت بعنوان (دور العنادل في ثورة الأدب الرومانسي) بدءاً من عندليب الشاعر الانجليزي جون كيتس ومروراً بعنادل الشعراء بايرون وشيلي ووردز ورث وصولاً إلى الحمامة المحبوسة في باب الطاق ببغداد التي أبكت المبدع الشاعر العراقي المكفوف (اليمان ابن اليمان) فدفع كل ما في جيبه لإطلاق سراحها...وهكذا كان ... فألهمه صبر الحمامة وحزنها قصيدة رائعة يقول في ختامها:
بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي من فك أسرك أن يفك وثاقي
ولي فيك يا شامة الدنيا الكثير.. ولي فيك يا فيحاء الزمان الكثير الكثير!!
وفي الختام أقول: لو كان لي من كلمةٍ تُسمع لدى الحكام الطغاة الذين اغتالوا ياسمين الشام.. وسرقوا مصاغها من جيدها.. وذبحوا البهجة في مقلتها ... لقلت لهم بالفم الملآن: أيها الظالمون ... الأوطان باقية ... والشعوب باقية.. وأنتم زائلون ... أفلا تعقلون؟!