في يوم قائظ، تحت شمس لا ترحم، وصلتُ إلى جندوبة، تلك المدينة التي تحتفظ في جوفها بذكرياتٍ لا تنسى عن الماضي البعيد. هناك، في أحضان الأرض التونسية، تقع شمتو وبيلاريجيا، اللتان كانتا ذات يوم شاهدتين على عظمتين: إحدى الإمبراطوريات التي لم تعرف الحدود، وروما التي كانت تتنقل بين الأمم كما تتنقل الرياح بين الأشجار.

ومع كل خطوة كنت أخطوها في شوارع جندوبة القديمة، كانت ذاكرتي تسترجع مشهدًا من تلك الأيام البعيدة. كان الرومان، بما ملكوا من قوةٍ لا تُقهر، يسرقون الرخام الفاخر من أراضي هذه المدينة، يحمِلونه عبر نهر مجردة أو على ظهور البغال، ويصعدون به إلى الشاطئ. هناك، في قلب البحر الأبيض المتوسط، كان يبحر إلى روما، ليزين بها قصور الإمبراطور ويساهم في بناء حضارةٍ لا تكل ولا تمل. لكن لم يكن الرخام وحده ما أخذوه. كانوا يسرقون الزبيب والتين والزيت والزيتون، كل ما تنبته الأرض، وما لا تقدر على إنتاجه إلا يدٌ مخلصة لأرضها.

كانت الحرارة لاهبة، خمسون درجة من العذاب الذي يشوي الأبدان. وفي تلك اللحظات، حين كنت أتجول بين أنقاض العصور، لاحظت أن التاريخ يعيد نفسه. فها أنا ذا أعود إلى تلك الأيام التي كانت فيها شعوب هذه الأرض ضحايا الاستعمار الروماني، وأتساءل في نفسي: هل حقًا تغير شيء؟ هل اختلفت أساليب القهر والسيطرة؟

لم يكن الاستعمار في تلك الحقبة أكثر من عملية سلبٍ مستمرٍ، تذهب فيها ثروات الأرض إلى مكان آخر، بينما يظل شعبها غارقًا في الفقر. كانت روما تعيش على أنقاض الشعوب الأخرى، بينما تجني فوائد عظمتها من تعب هؤلاء البسطاء. ولكن، هل انتهت تلك الحقبة؟ أليست كل الإمبراطوريات، حتى في هذا الزمن، لا تزال تفعل نفس الشيء؟ تحت أسماء وواجهات قد تبدو أكثر إنسانية، إلا أن الاستعمار يبقى استعمارًا.

إنها فكرة مؤلمة أن نسترجع تلك الحقائق القديمة، لكننا لا نستطيع أن نتجاهلها. تاريخ البشرية ليس سوى سلسلة من الإمبراطوريات التي تذهب وتأتي، ولكنها كلها تُشبه بعضها في النهاية. فمن زمن روما إلى أيامنا، يبقى الاستعمار هو نفسه، مهما تَغيّرت الأشكال أو تجددت الواجهات. وما يزال الجندوبيون، كما في الماضي، يعانون في صمت، بينما ينقل الزبيب والزيتون إلى مكان آخر، بعيد، حيث تزداد الفجوة بين الغني والفقير، وبين المستعمر والمستعمَر.

في تلك اللحظات الحارة، بين ظلال الأشجار القديمة التي سَمعَت التاريخ وتَحَمَّلَت عذاباته، شعرت أن الاستعمار ليس مجرد حدث قديم يمر عليه الزمن، بل هو جزء من الروح الإنسانية التي لم تتغير منذ الأزل.