في عصر تتسارع فيه الأخبار وتتصدر الأزمات عناوين الإعلام، أصبح لخبراء الطيران دور بارز في تقديم التحليلات الفنية حول الحوادث الجوية. إلا أن هذا الدور لا يخلو من التحديات والمسؤوليات الجسيمة، إذ لا يُعد كل من يمتلك خبرة أو معلومات كافيًا ليكون مرجعًا موثوقًا عند الأزمات.


الخبير الحقيقي ليس مجرد شخص يمتلك معلومات أو سنوات طويلة من الخبرة، بل هو من يمتلك القدرة على تحليل المعطيات بمنهجية علمية، وربط الأحداث بالسياق العام دون الوقوع في فخ التكهنات. فالخبرة ليست أرقامًا أو سنوات عمل فقط؛ بل هي مهارة في التفكير النقدي والقدرة على إيصال المعلومة بدقة ووضوح.

الظهور الإعلامي يُضيف بُعدًا جديدًا لدور الخبير؛ إذ يتطلب ذلك مهارة إضافية في التحدث بلغة مبسطة وواضحة تُخاطب جمهورًا واسعًا متنوع الخلفيات. الكلمة التي تُقال على الشاشة تُسجّل وتُحفظ وتتحول أحيانًا إلى مرجع، لذا يجب أن تكون كل معلومة مدروسة بعناية ومسندة إلى أدلة علمية قوية.


في مقابلة تلفزيونية حديثة مع إحدى القنوات العربية، قدم خبير سلامة جوية عربي تفسيرًا أوليًا لأسباب سقوط الطائرة الأذربيجانية. أشار إلى احتمال اصطدام الطائرة بسرب من الطيور، وهو تحليل قد يكون مقبولًا في سياق الحديث العام. ولكن عندما سُئل عن الثقوب الواضحة في جسم الطائرة، أرجع السبب إلى اصطدام الصخور بجسم الطائرة أثناء الهبوط في منطقة صخرية.

هذا التفسير، رغم بساطته، يفتقر إلى الدقة العلمية والتحليل الفني اللازم. إن تقديم مثل هذه الاستنتاجات دون أدلة مادية وفحوصات تقنية دقيقة قد يُضلل الجمهور، ويُحوّل مسار النقاش بعيدًا عن الأسباب الحقيقية. بالمقابل، عندما ظهرت الحادثة على قنوات إعلامية عالمية مثل CNN، فضّل الخبراء الذين استُضيفوا الامتناع عن تقديم تفسيرات قبل صدور تقارير التحقيق الرسمية، مؤكدين أن أي تحليل يجب أن يستند إلى نتائج دقيقة من الهيئات المختصة. وبعد عدة أيام، كشفت نتائج التحقيق أن سقوط الطائرة كان نتيجة إصابتها بقذيفة جوية أُطلقت عن طريق الخطأ من منظومة الدفاعات الجوية الروسية. هذا الفرق يُبرز أهمية التريث والحذر عند الإدلاء بتصريحات قد تؤثر في الرأي العام أو توجه الأنظار في اتجاهات خاطئة.


في مجال حساس كسلامة الطيران، هناك فرق واضح بين تقديم توقع أولي يستند إلى معطيات محدودة، وبين إصدار حكم قاطع يتطلب أدلة دامغة. الخبير الحقيقي هو من يُدرك هذا الفرق ويتعامل معه بمسؤولية.


في حالات الحوادث الجوية، تكون البيانات المبدئية حساسة وتحتاج إلى التفسير بحذر. الاستعجال في طرح تفسيرات نهائية يُعد خطأ جسيمًا قد يُشوّش على مسار التحقيق ويُلقي بظلال من الشك على مصداقية الخبير نفسه. من أبرز سمات الخبير الحقيقي الشجاعة في الاعتراف بالحدود المعرفية. قول "لا أستطيع الجزم الآن" أو "نحتاج إلى مزيد من التحقيق" ليس دليل ضعف أو نقص، بل يُعد قمة الاحترافية والنزاهة المهنية.

لو أن خبير السلامة الجوية قد اكتفى بالقول: "لا أستطيع تحديد سبب الثقوب دون نتائج التحقيق الفني", لكان ذلك أكثر احترامًا لمبادئ المهنة وأفضل بكثير من فرضيات غير مؤكدة قد تُربك الرأي العام.

يقع على عاتق الخبراء مجموعة من المبادئ التي يجب الالتزام بها عند التصريح لوسائل الإعلام:

اولا -الاستناد إلى أدلة موثوقة : يجب تجنب التخمين والتكهنات في غياب المعلومات المؤكدة.

ثانيا -الشفافية: الاعتراف بالحدود المعرفية وعدم ادعاء اليقين الكامل.

ثالثا -المسؤولية الاجتماعية: إدراك أن الرأي المُعلن قد يؤثر على الرأي العام وصناع القرار.
رابعا -التريث في التصريح: الامتناع عن إصدار أحكام نهائية قبل اكتمال التحقيقات الرسمية.

اما عن الدروس المستفادة من تحليل خبير السلامة الجوية
اولا- التريث في التحليل الإعلامي: لا يجب على الخبير الإدلاء برأي قاطع قبل اكتمال المعلومات المتاحة.

ثانيا -احترام التحقيقات الرسمية: يجب الامتناع عن إصدار أحكام قبل إعلان النتائج من الجهات المختصة.
waelsamain@gmail.com
1-1-2025