الابعاد الثقافية و النفسية للواقع الاردني الراهن
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
01-01-2025 08:16 PM
تنتشر حاليا في الشعوب العربية حالة من عدم الرضا و هي حالة عابرة للحدود يغذيها أي تغيير يحدث في المنطقة. الحصافة للتعامل مع هذه الحالة هي في فهم جذورها النفسية و الثقافية. إن ما يدفعني للكتابة في ذلك تصريحات بعض المسؤولين التي تغذي حالة عدم الرضا الشعبي من حيث تهدف الى تهدئتها و مرد ذلك برأيي أن المسؤول يعتقد أنه يخاطب النخب في حين أن التأثير الحقيقي لاي تبرير او تصريح ينتشر كما النار في الهشيم في المجتمع العام الذي يتعامل مع عواطف العقل الباطن كجزء من سايكولوجيا الجماهير.
أقسم هذه المقالة الى شقين الاول الفهم النفسي لحالة عدم الرضا العام و التي تقود في النهاية الى الاعتراض و الحراك و الثورات أما الشق الثاني سأعرج من خلاله على سايكولوجي الجماهير ليكون الختام برؤيتي كيف نتعامل مع هذه الحالة في هذا الظرف الصعب الذي نهدف جميعا أن تتجاوزه الأردن بسلام.
حالة عدم الرضا تنتج عن التباين بين ما يعتقد المواطن انها حقوق له و بين الواقع الموجود الذي يفرض عليه التعامل معه على المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية حيث فرضت وسائل التواصل الاجتماعي ادراك ثقافي خفي مختلف على المواطن باطلاعه على نماذج حياة المواطن في مجتمعات و دول اخرى و حتى في طبقات اخرى داخل مجتمعه و هذا خلق حالة بحق المواطن خصوصا في جيل الشباب في أن يحصل على نفس الحقوق و المستوى المعيشي للمواطن في دول مرفهة في حين يصطدم مع واقع يفترض نتيجة الخطاب الشعبوي انه نتيجة سوء الادارة او فساد الحكومات و هذه حالة تخرج العقل الباطن من منطقة الراحة و تفقد التوازن النفسي.
حالة الصراع المعرفي داخل العقل الباطن للفرد (و للافراد) ستؤدي إما الى السلبية و اللامبالاة كتعبير عن عدم الانتماء مع حالة من التذمر المتكرر أو الى فعل مثل الاعتراض و الحراك و اذا توفرت الظروف الثورات و التي في طبيعتها تحكمها العواطف و ليس المنطق لذلك فإنها تتوسع لتشمل القطاع الذي اختار السلبية و اللامبالاة نتيجة توفر الحصانة الجماهيرية. ان التعامل مع هذه الحالات عند ظهورها يشبه الطرق المتبعة في الطب الوقائي فالفرد هنا بين خيار تغيير الواقع ليتناسب مع ما يرى انه حقوق له أو تغيير نظرته للواقع آخذا بعين الاعتبار موارد و ظروف و مستقبل مجتمعه و دولته و هذه حالة ثقافية تحتاج ان تتبانها الدولة من خلال وزارة الثقافة ان كان المستهدف كافة الاعمار أو من خلال وزارة الشباب ان كان المستهدف فقط جيل الشباب و في كلتا الحالتين لا بد للمسؤول ادراك انه يخاطب الجماهير و العامة و ليس النخب لذلك فإن اي تصريح قد يصب الزيت على النار ان لم يدرك ذلك و ان لم يهدف الى تغيير رؤية المواطن الى الواقع و هذا ليس لخداع الناس و لكن لوضعهم في التصور الاوسع من التوازن بين الموارد و المتطلبات و التوازن بين المصالح و المبادئ و التوازن بين مستقبل الدولة و امكانياتها و التوازن بين قدرات البلد و طموحات الدول الاقليمية.
لفهم سيكولوجية الجماهير على أساس علمي لا بد من فهم ان العقل البشري ينقسم الى العقل الواعي (المعتمد على المنطق) و اللاواعي او الباطن بشقيه الغرائزي و العاطفي و الذي يحركة التهديد و المصلحة و العاطفة. الجماهير تعتمد على العقل الباطن لذلك فإن أي حراك سواءا كان فعلي او افتراضي (التواصل الاجتماعي و الشعور الشعبي العام) يحدث نتيجة تهديد لهويته او مكتسباته او طمعا في مصلحة تغيير الواقع المعيشي او السياسي لالغاء التباين بين ما يراه حقه و الواقع الفعلي او اذا حدث تحريك عاطفي و بالغالب ما يكون ديني او عشائري او مناطقي. حراك الجموع في حالة تهديد مصالحها او توقعها مصلحة يوفر حصانة للافراد و ذلك لغياب التهديد نتيجة الحماية التي توفرها الجموع لذاتها و التي تكون جاذبة لانضمام جموع اخرى قد تختلف معها في التعليم و التطلعات و لكن العقل الغرائزي يصهر المجموع في خليط متجانس يغيب فيه العقل الواعي لان الجموع تعطي شعورا بالانتماء و الحماية و غياب العواقب على الفرد.
تراكم حالة عدم الرضا مع الصراع داخل العقل الباطن للافراد يوفر ارض خصبة تنتظر حالة تغيير محيطة او شرارة انطلاق و هذه ضمن نظرية جناح الفراشة. فقد تحدث الاف الشرارات كما تتحرك ملايين الفراشات و لكن ان توفرت ظروف معينة فإن تحريك جناح فراشة في البرازيل قد يؤدي الى تسونامي في اليابان. لذلك فإن الوقاية الحقيقية هي في عدم توفير الارض الخصبة و ذلك من حلال رؤية و برنامج ثقافي متكامل يهدف لتعديل رؤية الافراد لواقعهم بدل رؤية الأفراد لتغيير واقعهم و الدخول في نفق المجهول.
ألخص و أقول أن هنالك الان بيئة خصبة من عدم الرضا عابرة للحدود تغذيها وسائل التواصل الاجتماعي و الظروف المحيطة تحتاج لعملية ثقافية وقائية و مبنية على فهم علمي للابعاد النفسية و الاجتماعية و الثقافية للمجتمع و انتباه شديد من المسؤولين في التصريحات و التبريرات بحيث تفترض انها تخاطب الجموع و عقلها الباطن و ليس النخب و عقلها الواعي و أن تأخذ بالاعتبار أن هذه الجموع في عقلها الباطن نتيجة خطاب شعبوي تحمل المسؤولين و الحكومات مسؤولية التباين بين واقعها و ما تعتقد انه حق لها و هي بطبيعتها ليس مطلعة و قد لا تكون مهتمة بالاطلاع على تفاصيل ظروف الوطن و امكانياته و شح موارده و التهديدات المحيطة و هذا بحد ذاته ناتج عن التهميش و الإقصاء للقدوات الاجتماعية و العلمية و الثقافية المؤثرة و الموثوقة اجتماعيا و ناتج عن فقدان الثقة بين المواطن و المؤسسات و الاهم من ذلك هو عدم العمل على دولة مدنية تجمع كافة الهويات الفرعية لعدم وجود نموذج ثقافي واضح المعالم يركز على ان الدين و العشيرة و الاصل و المنطقة لا يجوز ان تكون جزء من السياسة في الدولة فالسياسة متغيرة وفق مصالح الدول و ظروفها و ستصدم حكما في ظرف ما مع أي ثوابت مؤكدا مرة اخرى أن حالة عدم الرضا التي تتطور داخل عقل المواطن نتيجة التباين بين ما يعتقد انه حقوق له و ما بين واقعه تحتاج لخطاب رسمي لتغيير رؤية المواطن للواقع بدل تركه لتأثير تيارات ثقافية داخلية و خارجية تريد منه تغيير واقعه بالتذمر و النقد و الحراك و الثورات ان استطاعت كبديل للحوار و قبول الآخر و تطوير الذات.