الإستراتيجية الأمريكية لإنهاء "المشروع الإيراني"
داود عمر داود
30-12-2024 04:17 PM
ماذا يجري في العراق؟:
يبدو أن عدوى التغيير في المنطقة مستمرة، حيث تواترت الأنباء أن التغيير التالي سيطال العراق. إذ أن ارهاصات التغيير أصبحت ماثلةً للعيان، وأكثر وضوحاً، خاصة بعد الإنذار الأمريكي، الى الحكومة العراقية، بحل مليشيات "الحشد الشعبي"، التابعة لإيران خلال 72 ساعة، وإلا.
ونظراً لأن قوات "الحشد" تابعة لإيران، تدريباً وتمويلاً وإدارةً، لم تنفذ الحكومة العراقية هذا الطلب الأمريكي، مما اضطر الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، الاتصال برئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، وأكد له بـ "ضرورة حصر السلاح بيد الدولة". وفي ذات الوقت، قامت القوات الأمريكية بتعزيز تواجدها بألفي جندي إضافي في "المنطقة الخضراء" في بغداد، وستة آلاف جندي في القواعد العسكرية الأمريكية غربي العراق، وذلك استعداداً لأي طارىء.
ويقال إن حالة من الرعب تسيطر على أركان النظامين، العراقي والإيراني، خشيةً من سقوطهما على يد الولايات المتحدة، وان معنويات المسؤولين في العاصمتين منهارة، لدرجة دفعت إيران إلى إجلاء عائلات دبلوماسييها من سفارتها في بغداد، ومن قنصلياتها في المحافظات.
يضاف إلى ذلك تصريح نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، بقوله "لن نسمح بسقوط النظام الشيعي في العراق. ولن نقبل بسقوطه لو قدمنا أرواحنا من أجله". وكان المالكي قد صرح قبيل سقوط نظام بشار في سوريا، أنه "اذا سقطت دمشق فستسقط بغداد". ويمكن الإضافة أنه إذا سقطت بغداد فتسقط طهران أيضاً.
"مليشيات الحشد الشعبي":
تأسست مليشيات "الحشد الشعبي"، عام 2014، بأمر من نوري المالكي نفسه، بحجة تعبئة الناس كي يقفوا بوجه تنظيم "داعش". وانضم للحشد قوات من "حزب الله" العراقي، و"عصائب الحق"، و"منظمة بدر"، و"قوات الصدر". كما ضم فصيلين تابعين لآية الله السيستاني، هما "لواء العباس"، ولواء "علي الأكبر"، تليهما "سرايا السلام" التابعة لمقتدى الصدر.
أما اليوم فتضم قوات "الحشد الشعبي" 67 فصيلاً مسلحاً، يبلغ تعدادها قرابة 100 ألف جندي. ومن ناحية فكرية، فإن "الحشد" يسير حسب أفكار "الخميني"، ويسعى الى تطبيق النموذج الإيراني من "ولاية الفقيه" في العراق.
الحشد دولة داخل الدولة:
ومع مرور الوقت، أصبحت "قوات الحشد الشعبي" هي القوة الضاربة، وذراع إيران القوي المهيمن على العراق. ويرى المراقبون أن تنظيماً مسلحاً كهذا يعتبر نفسه أكبر من الدولة العراقية، ويشكل وجوده خطراً على السلم الاجتماعي في البلاد.
وفي أواخر عام 2017، كانت هناك مطالبات بحل قوات "الحشد الشعبي" بمجرد انتهاء مهمتها في محاربة تنظيم "داعش". إلا أن شخصيات من الحشد قالت إنه لا شيء يلزم الميلشيات بحل نفسها سوى فتوى جديدة تصدر عن المرجع علي السيستاني، الذي أفتى أصلاً بإيجادها، فيما سُمي بفتوى "الجهاد الكفائي".
أمريكا تتراجع عن الخطأ بإنهاء "المشروع الإيراني":
منذ فترة طويلة والتسريبات الصحفية، وتحليلات المراقبين، تفيد أن واشنطن قررت التخلص من نظام الحكم "الشيعي" في العراق، الذي أقامه عام 2003، الحاكم الأمريكي بعد الاحتلال، "بول بريمر"، وذلك بعد أن أدرك المخططون الاستراتيجيون الأمريكيون الخطأ الفادح الذي ارتكبته بلادهم في إطلاق العنان لـ "المشروع الإيراني"، في الهيمنة على المنطقة العربية، خلال العقدين الماضيين. ويصف مراقبون أن ما تقوم به أمريكا الآن هو تراجعٌ عن ذلك الخطأ.
تغيير نظام الحكم يتطلب حل الحشد:
يتداول الناشطون العراقيون أن الخطة الأمريكية لإسقاط نظام بغداد سيكون عن طريق ثورة شعبية عارمة، تشارك فيها كافة مكونات المجتمع العراقي، مستغلة فساد النظام، والعوز الذي يعاني منه الناس. ولذلك تصر الولايات المتحدة على حل "الحشد الشعبي"، قبل تفجير الثورة المرتقبة، لأن قواته هي التي ستقوم بالتصدي للثوار الغاضبين في الشوارع، وربما يقود ذلك الى حمام دم، أو حربٍ أهلية، بالامكان تجنبها.
ومن هنا، على ما يبدو، يأتي إصرار أمريكا على التخلص من "الحشد الشعبي"، وهو البعبع الذي نشأ وترعرع في كنفها، والآن تريد إطلاق رصاصة الرحمة عليه، بعد أن انتهى دوره، كي تهيء الظروف لثورة شعبية قادمة. لكن المعضلة التي تواجه الأمريكيين، والحالة هذه، أنه من يأتي أولاً؟ الدجاجة أم البيضة؟ الثورة أم حل الحشد؟
إعادة حزب البعث لحكم العراق:
والأهم أن الولايات المتحدة تقوم بالإعداد وتهيئة الظروف اللازمة لإعادة تسليم الحكم في العراق إلى "حزب البعث"، ممثلا بـ "سلطان مصطفى التكريتي"، زوج "حلا" ابنة الرئيس صدام حسين، الذي راج اسمه في أمريكا، خلال الشهور الماضية، وفي مواقع التواصل. وهذا يفسر سبب قيام حكومة بغداد بحملة اعتقالات واسعة، بعد سقوط دمشق، بحق قادة "حزب البعث" الذين بقوا في العراق، وذلك في محاولتة لعرقلة خطة أمريكا في تغيير النظام، أو ربما تأجيلها.
بغداد وطهران تحاولان إفشال الخطة الأمريكية:
التغيير المرتقب لنظام بغداد، سواءً بثورة تتصدى فيها قوات "الحشد" للثائرين إذا لم يتم حلها، أو انقلاب عسكري، يتواجه فيه "الحشد" مع الجيش العراقي، لا بد أن يكون هناك ارتدادات وذيول وتبعات على إيران، التي سمح لها الأمريكيون باستعمار المنطقة، منذ احتلالهم العراق.
حيث يُدرك الإيرانيون أنه إذا سقط نظام بغداد فسيتبعه سقوط نظام طهران، وبنفس الطريقة. لذلك التقت مصلحة "النظامين"، العراقي والإيراني، على وضع العراقيل أمام تنفيذ الخطة الأمريكية، إما لإفشالها، أو للمماطلة والتسويف، انتظاراً لظروف اخرى، وذلك تفادياً للسقوطِ المريعِ السريع لكلٍ منهما، كما سقطت دمشق من قبل.
لكن يبدو أن الأمريكي، رغم العراقيل، يصر على استكمال خطته بالتخلص من "المشروع الإيراني"، لأسبابه الاستراتيجية، مهما كلف الثمن، فعينه على الصين الصاعدة بسرعة البرق في درب التقدم التكنولوجي، والاقتصادي، والعسكري، ومد نفوذها في العالم على نار هادئة، خاصة في منطقتنا.
خلاصة القول: ترامب يستكمل ما بدأه لإنهاء "المشروع الإيراني":
اللافت أن دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي المنتخب، يمارس ضغوطاً قوية باتجاه طي ملف النزاعات في الشرق الأوسط، بل انه "يُصدر تعليماته"، حتى قبل أن يتولى السلطة، للتعجيل بإنهاء "المشروع الإيراني".
ولا عجب، فهو الذي دق أول مسمار في نعش "المشروع الإيراني" عندما أصدر تعليماته بتصفية قاسم سليماني، مطلع عام 2020، قبيل انتهاء ولايته الأولى. ومنذ ذلك الحين، على مدى 4 سنوات، و"المشروع الايراني"، في الشرق الأوسط، يتداعى رويداً رويداً، ولم يتبق سوى المسمار الأخير الذي سيدقه ترامب بنفسه استكمالاً لمسماره الأول.
هذا الاستعجال لدى ترامب، وإدارته القادمة، دليل اللهفة للتفرغ لمناكفة الصين في عقر دارها، بعد تبريد أو تجميد النزاعات في الشرق الأوسط، عن طريق تخليص المنطقة من الهيمنة الإيرانية، التي كانت قد فرضتها أمريكا بنفسها، وأيقنت أنها أضرت بمصالحها، على المدى البعيد.
لذلك فإن إنهاء "المشروع الإيراني" سيسهل على الأمريكيين استقطاب العرب والمسلمين الى جانبهم، في أي صراعات دولية قادمة، ليكون شبابهم وقوداً لأي حرب قادمة مع الصين "الشيوعية" كما كانوا، من قبل، وقوداً لحربهم في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي "الشيوعي"، وكانت النتيجة انهيار وتفكك الاتحاد.
واليوم يحاول الأمريكيون اتباع نفس نموذجهم الاستراتيجي القديم مع الصين، ربما بتوريطها في حروب طويلة الأمد هنا أو هناك تستنزفها، كاحتلال "تايوان"، لتلقى في النهاية نفس مصير الاتحاد السوفياتي، عندما تورط في احتلال أفغانستان، قبل 45 عاماً، في مثل هذه الأيام من عام 1979.