التاريخ وفنية التقديم في رواية "حكي القرايا" لرمضان الرواشدة
28-12-2024 10:39 AM
عمون - قراءة رائد محمد الحواري- هناك كتاب ينتهجون كتابة الرواية (القصيرة) الحديثة، فهم لا يعتمدون على الحجم بقدر اعتمادهم على الأحداث والشخصيات وطريقة التقديم، والمادة، المضمون الذي تحمله الرواية، وهذا الأمر نجده في كل أعمال "غسان كنفاني" الروائية، حيث يمكن تناول الرواية في ساعتين، وبما أننا نعيش في عصر السرعة والنت، فقد أصبحت الروايات (القصيرة) مطلوبة من القراء.
قبل الدخول إلى الرواية نتوقف عند التنويه الذي وضعه السارد: "هذه الرواية لا تؤرخ الأحداث، ولا تتناول التاريخ بصورة متسلسلة، لكن بعض أحداثها تتقاطع من المروي الشفوي في الجنوب الأردني... ولا يوجد علاقة لها من قريب أو بعيد ببعض الأسماء في تلك المنطقة التي قد تتشابه مع ما جاء في الرواية"ص5 ، بمعنى أن السارد أعتمد على المرويات الشفوية، وليس على ما هو مدون في كتب التاريخ، وكأنه يريد القول إن الرواية هي عمل (منفصل) عن التاريخ، فهي عمل أدبي، رغم أنه يحمل التاريخ وأحداث تاريخية، فيجب النظر إليها من منظور أدبي روائي وليس من باب التاريخ، من هنا عندما افتتح الرواية بمشاهد الخصب/"الحصيدة" وما يلازمها من أعراس واحتفالات، وجعل شخصيات الرواية متتابعة متسلسلة "من "منصور الأعمى" مرورا ب"راشد" وصولا إلى محمد بن راشد"، وحافظ على وحدة المكان "القلعة" في كافة الأحداث، أكد أدبية الرواية كرواية.
الخصب
دائما فاتحة العمل الأدبي أما تقدم القارئ من العمل وأما تنفره، وبما أن فاتحة الرواية جاءت بلغة ومضمون الخصب، مستندة على (التراث) الجنوبي: "وفي موسم الحصيدة عادة يبدأ الحب وينتهي بالزواج" ص9، نلاحظ أن الحدث/الفكرة جاءت من خلال السارد، لكنها تقدمنا من موسم الخصب الذي أقامه سوريو الجنوب احتفاء بعودة البعل، حيث كانت تقام الأعراس وتزف العرائس إلى العرسان.
ولم يكتف السارد بهذا الحديث (العام/العابر) عن (طقوس) الخصب، بل تعداه إلى تقديم صورة هذا الاحتفال وما فيه من غناء: "كانت النساء يغنين أثناء الحصيدة:
"تلولح بالمنجل ودور..
وارمي للزينات غمور
هات مروة هات مروة
والعزيمة بدها قوة
بدها ساعد بدها قوة
سبعك يل ما بيك قوة"
فيجاوبهن بعض الرجال لشد عزيمة لمتعبين من عملية الحصيدة:
"لاحصد في ايدي الثنتين
من خوف الغلا والدين
لاحصد في ايدي العشرة
من خوف أبيع البقرة
يا شباب أرموا المطرح..
العنب والتين روح
والشباب اللي تراهم..
وافتح القادم وراهم" ص10و11.
اللافت في هذا المشهد أنه يقربنا من طبيعتنا الاجتماعية، فلم يكن هناك لا (عيب ولا حرام) تشارك الرجال والنساء الفرح في موسم الخصب/الحصيدة/الزواج، وهذا أحد جمالية المضمون الذي تقدمه الرواية، طبيعتنا الاجتماعية الطيبة، طبيعتنا البكر، حيث كان الرجال والنساء لا ينظرون نظرة (الشهوة) لبعضهم، بل نظرة التكامل والتآلف، فكان طبيعيا أن يلتقوا بهذا الانسجام الطبيعي فيما بينهم ويفرحون معا.
وإذا ما توقفنا عن الصورة السابقة سنجدها قريبة من تلك التي أقامها أجددنا قديما، حيث كان الغناء يحمل فكرة الخصب المادي والروحي، وما أهمية العمل إلا إحدى صور الدعوة لنماء وكثرة الخصب.
قديما، كانت طقوس الزواج المقدس تستمر سبعة أيام متواصلة، فرقم سبعة يحمل معنى القدسية والاستمرارية والكثرة، وهذا الأمر استمر معمولا به حتى وقت قريب (1834) زمن بداية أحداث الرواية.
يحدثنا السارد عن زواج "منصور الأعمى": "سبقتها سبع ليال من الأفراح والغناء، والسامر والدحية التي كانت النساء يشاركن فيها بحماسة وسط الزغاريد المنطلقة من الحناجر" ص11، بهذا المقطع يكون السارد قد ربط ما يجري في الجنوب من أشكال الخصب/الأفراح وما فيها من غناء وبهجة، والوقت الذي تستغرقه بالماضي، بخصب البعل السوري، وهكذا تكون الرواية قد أكدت أصالة الجنوبيين، وارتباطهم بتاريخهم، بتراثهم، بأرضهم.
الأحداث
تتناول الرواية أحداثا مفصلة في تاريخ الجنوب الأردني وحتى المنطقة العربية، حيث تتناول حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام، وكيف تعامل الأتراك مع المنطقة وسكانها، إلى أن تصل إلى الثورة العربية وكيف استقبل أهل الجنوب تلك الثورة التي شاركوا فيها بفاعلية، ووصولا إلى قيام الدولة الأردنية، والقضاء على (الجماعات الضالة) وإنهاء الغزو والسلب وقطع الطريق، فكرا وسلوكا/وعملا.
يتناول السارد الطريقة التي نظر فيها كل الدخلاء إلى المنطقة، فأرادوها مصدر تموين لجيوشهم وحروبهم، وأيضا يريدون شبابها ورجالها وقودا لحروبهم، هذا الأمر أراده "إبراهيم باشا" من أهل بلاد الشام ومنهم جنوبي الأردن: "ممدوح بيك يريد إخضاع عشائر القلعة بأي ثمن، وأخذ الضرائب منهم، وتجنيد الشباب في الجيش: ليحاربوا معهم في حروبه مع العثمانيين" ص32، من هنا تحالف وتألف كل أهل الشام ضد حملته التي لم ترحم أحدا، فكل من وقف ضدها بطشت به، ومنهم أهل الكرك: "لا حيلة لهم بجيش إبراهيم باشا، خاصة بعد أن سمعوا ما حل بالكركية في قلعة الكرك من مجازر وتقتيل" ص26، من هنا كان (التحالف/التآزر) حالة طبيعية بين المواطنين، وما حماية الشيخ "منصور الأعمى" للثائر "قاسم الأحمد" ابن نابلس الهارب من بطش إبراهيم باشا إلا صورة عن وحدة أبنا المنطقة ضد الغازي المصري.
مقابل هذا البطش كانت هناك البطولة والحنكة العسكرية، حيث طلب الشيخ "منصور الأعمى" من العشائر التوجه إلى القلعة، وبعد سبعة أيام من الحصار، طلب منهم سكب الماء من أعلى أسوار القلعة، عندها علم القائد المصري أن القلعة فيها ماء وغذاء يكفيهم لمدة طويلة، مما جعلته يقدم عرض (سلام) يتنازل فيه عن كل مطالبه السابقة مكتفيا بالحصول على ما يحفظ له ماء الوجه: "رفع الحصار، عن القلعة، وتعين قائد محلي للمنطقة، مع الاستغناء عن تجنيد الفلاحين مقابل الحصول على خمس الزراعة والعلف" ص35، هذا المواجهة سيتبعها مواجهات أخرى، من الأتراك الذين أيضا نظروا إلى المنطقة على أنها مصدر تموين للجيش، الغذاء، ومصدر أمداد بالرجال، وكما واجه أهل الجنوب حملة إبراهيم باشا بالصمود والتضحية ، واجهوا حملة الأتراك الذين يطالبون أهل القلعة: "بإطعام الجنود وتعليف الدواب" ص62، ولكن الإمكانيات المادية الضعيفة لأهل القلعة جعلتهم يردون هذا الطلب، يقرر قائد الحملة البقاء بالقرب من القلعة، يتحرش جنوده بالنساء، وتحدث (معركة) بين الجانبين مما يتسبب بإصابة أربعة جنود أتراك، عندها يقرر قائد الحملة التركية مهاجمة القلعة ومن فيها والقضاء عليهم، وهنا يكون الشيح راشد جمع العشائر الجنوب حوله، بعد أن علموا بفعلة الجنود الأتراك وتحرشهم بالنساء، يبدأ الأتراك بضرب القلعة بالمدافع والرشاشات، إلا أن رجال العشائر قرروا الموت بشرف، يتم اختراق القلعة، وتدخلها القوات التركية، يفر من القلعة من يستطاع، منهم الشيخ راشد الذي أصيب في المعركة.
لكن السارد لا يريد للرواية أن تنهي بنهاية سوداء، فيدخلنا مباشرة إلى حدث مفصلي، إلى الثورة العربية الكبرى، رابطا الثورات والتمرد على الدخلاء بحال الظلم والقهر التي مارسوها بحق سكان المنطقة: "لم يمر وقت طويل حتى توالت الثورات وحركات العصيان ضد التعسف والظلم التركي، وفي مقدمتها ما حدث ـ بعد سنوات ـ في ثورة الكرك التي أطلق عليها أسم "الهيّة".
كانت تلك علامات صغرى قام بها الفلاحون والبدو، لعلامة كبرى سيظهر مجدها بعد سنوات وتكون بداية الحقيقة لنهاية ظلم امتد لأكثر من خمسمائة عام، كانت تلك الرصاصة الأولى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي من مكة، إيذانا بالثورة على ظلم الدولة التركية، وانضم إليها كل أحرار بلاد الشام" ص69، اللافت في هذا التقديم أن السارد يتنحى جانبا، ويترك المجال "لراوي" أخر يتحدث عن هذه الأحداث التاريخية، وكأنه لا يريد أن يقحم نفسه في التاريخ، أو في أحداث تاريخية، لها أكثر من قراءة ووجهة نظر، من هنا بدأ الحديث مواجهة الحملة التركية في الصفحة 63 من خلال "قال الراوي" وانتهى في الصفحة 69.
المرأة
الحديث أن دور المرأة في زمن قديم 1834 إلى 1917، وفاعلتها ودورها في المجتمع وحتى في القرارات الحاسمة يؤكد أن مجتمعنا كان متقدما على العديد من التيارات الدينية التي تدعي (المحافظة) على المرأة وحقوقها، فهناك أكثر من امرأة تناولتها الرواية، منهن "علياء" زوجة "الشيخ إبراهيم شيخ الكركية" التي رفضت تسليم الثائر النابلسي "قاسم الأحمد" "لإبراهيم باشا" وخاطبت زوجها قائلة: "المنية ولا الدنية...كيف بدك تسلم الدخيل؟ ... العيال الله بعوضنا عنهم، ولا يقولوا إبراهيم سلم دخيله" ص28، مثل هذا الموقف ينم على أننا امرأة قوية، صلبة، منتمية لواقعها، لمجتمعها، وأيضا امرأة لها دورها الاجتماعي و(السياسي)، وما مشاركتها في اتخاذ القرار وحسم المواجهة مع المصريين، حتى لو أدت إلى الموت، إلا من باب من تأكيد أنها جزء من مجتمع ولها دور حيوي وفاعل فيه.
وهناك "فاطمة" زوجة الشيخ "منصور الأعمى" التي كانت تخفف عنه عبء المسؤولية، وتزيل عنه التعب من خلال: "تملأ البيت حبورا وابتساما، وتعمل على إرضائه وتدليله" ص32، فرغم أن "فاطمة" هنا امرأة عادية، إلا أن تفهمها لدور زوجها في المجتمع والأعباء الملقاة على كاهله من خلال الإصلاح بين الخصوم، ومحاولتها تقديم كل وسائل الراحة والسعادة له، يجعلها (شريكته) في حل الخلافات والحد من الصراعات بين القبائل والأفراد المتخاصمين، من هنا كان "منصور" يتفهم دورها، وما مشاركتها في اختيار اسم المنطقة التي ستكون قرية لها ولأسرتها: "نسميها "الجاية" لأن الجايات ستكون أحسن من الرايحات.. والخير برائحة البنات" ص39، إلا من باب إعطائها دورها في الحياة، وإذا ما توقفنا عند قولها سنجد النظرة الإيجابية للمستقبل والحياة بصورة عامة.
وهذا يعيدنا إلى بناء شخصية "فاطمة" في الرواية، فعندما تحدث السارد عنها في المشهد الأول، وكيف كانت تخفف عن زوجها "الشيخ منصور" من خلال لقائه وهي مبتسمة، أكد في المشهد الثاني أنها صاحبة نظرة إيجابية، وتتمتع بروح متفائلة تجاه المستقبل.
أما "شيخة" ابنة محمد بن راشد" التي تعرضت (للتحرش بالكلام) من قبل "عيال العلاّن" فما كان منها إلا قالت للمتغزل بها: "إذا لم تغادر سأجمع كل رجال العشيرة" 73، بعدها تذهب وتخبر والدها ما جرى، ليتم بعدها تأديب "عيال العلان".
اللافت في هذا المشهد انه يقدم لنا المرأة الواثقة بنفسها وبأهلها، من هنا لم تتردد في أخبار والدها بما جرى معها، على النقيض من (بنات اليوم) وأهل هذا الزمن، الذي يتهم المرأة وينسب لها كل الأخطاء التي تجري، دون أن يحمل الرجل أي عب أو مسؤولية، رغم أنه هو التحرش والفاعل والمتعدي.
الجماعات الضالة
يتناول السارد جماعات ضالة تعيش على الغزو والسلب والنعب وقطع الطريق، وهذه الجماعات عاثت فسادا في الأرض، فلم يسلم منها حتى الحجاج الذي تعرضوا للسلب وحتى القتل، من هنا ذكرهم السارد في أكثر من موضوع، في بداية الرواية يقول عن "المناعسة": "عانت الدولة العثمانية من قطعهم طريق قوافل الحج الشامي إلى الديار المقدسة، كانوا يغيرون ... يقتلون الكبار، ويسرقون الجمال والذهب الذي بحوزة الحجاج" ص18، ولم يكتف بالحديث، بل يتحدث عن جماعات أخرى ضالة: "عيال العلان... لم يتركوا منطقة إلا غزوها، ولم يتركوا قافلة إلا هاجموها" ص74، ومن هنا كان من واجب شيوخ العشائر التصدي لهم وقتالهم وتشتيت شملهم، وهذا ما فعله الشيخ "راشد" حينما غار عليهم وقتل منهم من قتل وشرد الباقين منهم.
المكان
يركز السارد على تحديد المكان، من "القلعة" كمركز للأحداث والشخصيات، لكنه يذكر أماكن أخرى جاءت تسميتها بواسطة الناس، الشيخ منصور "الجاية" التي سمهاها نسبة إلى المولود القادم من زوجته "فاطمة" وأيضا أرض "مقتل منصور" التي قتل فيها و ما زالت تسمى بهذا الاسم حتى اليوم، وهذا يشير إلى تواصل وجود الجنوبيين في المنطقة، وإذا ما علمنا أن ثقافتهم وطقوس الخصب/الحصيدة والزواج عندهم تصل بجذورها إلى البعل، نتأكد انه هذا التواجد أصيل، ولا يمكن أن يزول أو يزال، هذا ما يحمله مضمون وفكرة وأحداث وشخصيات الرواية.
رواية " حكي القرايا" من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2024.
* رائد محمد الحواري/ كاتب فلسطيني/ رام الله.