بأثر رجعي .. قُبلة الوداع للاستثمار الآمن
محمود الدباس - ابو الليث
26-12-2024 01:47 PM
ليس من الحكمة أن تزرع الحقل.. ثم تقرر تعديل تربة الأرض بعد أن نضج الزرع.. هكذا هو الحال مع قرارات تصدر بأثر رجعي.. في مشهد اقتصادي يئن من ثقل التحديات.. قرارات كهذه.. لا تُثقل كاهل المستثمرين المحليين فقط.. بل تُلقي بظِلالٍ قاتمة على جاذبية بيئة الاستثمار برمتها.. فالرسالة المبطّنة لمثل هذه الخطوات.. هي أن الاستقرار التشريعي أمر مؤقت.. وأن قواعد اللعبة يمكن أن تتبدل في أي لحظة..
حين يقرر مستثمر إقامة مشروع ما.. تكون أولى خطواته إعداد دراسة جدوى تفصيلية.. يُدخل فيها كل المتغيرات من رسوم وضرائب وتشريعات.. ويضعها في ميزان الربح والخسارة.. هذه الحسابات الدقيقة تُبنى على استقرار القوانين.. ونِسب الضرائب.. لكن إذا ما جاء قرار مفاجئ بأثر رجعي.. يغيّر المعادلة.. فإن المشروع برمّته يصبح عُرضة للفشل.. فيخسر المستثمر أمواله.. ويخسر الاقتصاد فرصةً كان يمكن أن تكون نواة لازدهار أكبر..
ولا تتوقف الآثار السلبية عند فشل المشاريع.. بل تمتد لتشمل البطالة.. فإغلاق المنشآت نتيجة قرارات مفاجئة.. يؤدي إلى تسريح العمال والموظفين.. ومع فرض ضرائب جديدة.. أو زيادتها.. يُضطر أصحاب المشاريع لتقليص عدد العاملين لديهم لتخفيف التكاليف.. مما يؤدي إلى تحميل أعباء العمل على من تبقى منهم.. وهذا بدوره يخلق بيئة عمل مرهقة وغير صحية وطاردة.. الأمر الذي يدفع الشباب إلى الهجرة.. أو العزوف عن سوق العمل المحلي.. مما يزيد من أرقام البطالة.. ويضاعف من التحديات الاجتماعية والاقتصادية..
إن تغيّر نسب الضرائب أو فرضها بأثر رجعي ليس مجرد تعديل مالي.. بل هو رسالة للداخل والخارج.. بأن الاستثمار في هذا البلد محفوف بالمخاطر.. وأنه لا أمان على خطط طويلة الأجل.. وهذا تحديداً ما يخشاه المستثمر الأجنبي.. الذي يضع نصب عينيه عوامل.. مثل وضوح القوانين وثباتها.. كمقومات أساسية لأي قرار استثماري..
لننظر إلى تجارب ناجحة مثل سنغافورة التي تحولت من جزيرة صغيرة بلا موارد.. إلى واحدة من أكبر مراكز الاستثمار في العالم.. والسبب؟!.. وضوح قوانينها.. وثبات نظامها الضريبي.. فقد عملت على استقطاب المستثمرين.. وذلك بمنحهم بيئة قانونية مستقرة.. تحمي مصالحهم.. وتضمن لهم عائداتهم دون مفاجآت..
وفي العالم العربي يمكن أن نتعلم من تجربة الإمارات العربية المتحدة.. التي لم تكتفِ فقط بتثبيت قوانين الاستثمار.. بل عملت على تحسينها.. لتصبح أكثر جذباً.. فمنحت المستثمرين الأجانب ملكية كاملة لبعض القطاعات.. وخفضت نسب الضرائب والرسوم بشكل مدروس.. لتصبح وجهة مفضلة لرؤوس الأموال العالمية..
إن على الحكومة أن تُدرك أن قرارات كهذه لا تضر فقط بمستثمر أو اثنين.. بل تعيد تشكيل صورة البلد بأكمله أمام العالم.. والرسالة التي يجب أن تُرسل.. هي أن الأردن بيئة آمنة للاستثمار.. قوانينها واضحة وثابتة وتُبنى على رؤية استراتيجية لا تُهددها قرارات مفاجئة.. فالتخطيط الاقتصادي السليم ليس مجرد فرض ضرائب.. بل هو خلق بيئة تُحفّز النمو.. وتجذب الاستثمارات.. وتعزز الثقة..
الاستثمار ليس مغامرة في المجهول.. بل هو شراكة بين رأس المال والقوانين.. وعندما تتزعزع هذه الشراكة.. فلا عجب أن نجد أموالاً تهرب.. ومشاريع تُلغى.. وحلولاً تُضيّع الفرص بدل أن تصنعها.. ومع كل ذلك.. نجد المزيد من العمال ينضمّون إلى طوابير البطالة.. فهل تستمع الحكومة لهذا النبض؟!.