القاموس الخاطئ .. حيث تبدأ الحكاية
محمود الدباس - ابو الليث
25-12-2024 11:59 AM
يُقال إن أعظم المشكلات.. تبدأ من أبسط سوء فهم.. ويُحكى أن في إحدى القرى النائية.. اعتاد الناس أن يجتمعوا كل مساء في ساحة صغيرة.. يتبادلون فيها الحديث والحكايات.. في أحد الأيام.. جلس رجل غريب عن القرية في زاوية الساحة.. لم ينبس ببنت شفة.. واكتفى بالنظر إلى السماء بعينين شاردتين.. لم تمض لحظات.. حتى بدأ الحاضرون يتداولون تفسيرات لصمته.. بعضهم قال إنه مغرور لا يُريد أن يخاطب أحداً.. وآخرون زعموا أنه يتجاهلهم بازدراء.. بينما افترض قلة منهم أنه ربما يحمل هموماً تثقل صدره..
لم يطل الأمر.. حتى اقترب منه شاب وسأله عن سبب صمته.. فأجاب الرجل بهدوء "أبحث عن كوكب يمكنني أن أهديه لطفلي الذي سيولد قريباً.. كنت أتأمل في السماء بحثاً عن أجمل نجمة".. صُدم الجميع مما سمعوا.. ووقعوا في حرج شديد بعد أن أدركوا كم أخطأوا في تفسيرهم..
هذه القصة تلخص معضلة إنسانية أزلية.. كم من خلافات اشتعلت بسبب سوء فهم.. أو إسقاطات شخصية.. لا تمت للواقع بصلة.. هناك حاجز بين ما يُقال.. وما يُقصد.. بين ما يُفعل.. وما يُفهم.. وهذا الحاجز كثيراً ما ترفعه العواطف.. التحسس.. أو حتى الأفكار المُسبقة.. التي تراكمت في عقولنا عبر السنين..
ففي العلاقات الإنسانية.. سواء كانت بين أفراد الأسرة.. أو بين الشعوب والدول.. يميل البعض إلى تفسير ما لا يفهمونه.. من خلال منظارهم الخاص.. دون أن يبذلوا جهداً لاستيعاب وجهة نظر الآخر.. أو فهم سياق حديثه.. وهنا تكمن المشكلة الكبرى.. لأننا عندما نفسر من قاموسنا فقط.. فإننا نخون الحياد.. ونظلم الآخر دون أن ندرك..
يُقال أيضاً.. إن أعظم الحروب في التاريخ.. لم تكن بسبب الأعداء الظاهرين.. بل بسبب تفسيرات خاطئة.. فحتى بين الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.. وفي حادثة مشهورة.. يُقال إن المخابرات السوفيتية اشتبهت في رسالة بسيطة.. كتبها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت.. إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل.. أثناء مؤتمر يالطا. كتب روزفلت لتشرشل على قصاصة ورق "سحاب بنطالك مفتوح".. فَسرّتها المخابرات السوفيتية.. على أنها شيفرة سرية.. تدل على محاولة اغتيال ستالين.. وتم تفسير الرسالة بناءً على شكوك ومخاوف غير مبررة.. وتبين في النهاية.. أن الرسالة كانت مجرد ملاحظة عابرة لا أكثر.. لكن الرد الذي جاء من تشرشل كان حاسماً.. حيث قال بنبرة ساخرة "النسر العجوز.. لن يطير من العش!".. في إشارة إلى أن الرسالة كانت مزحة غير مقصودة.. فكان رد تشرشل يعكس حكمة في التعامل مع سوء الفهم.. ويُظهر كيف أن تفسيرات خاطئة.. قد تؤدي إلى توترات غير ضرورية..
علم النفس يُشير إلى مفهوم يُدعى "الإسقاط" (Projection).. وهو ميل الإنسان لإسقاط مشاعره.. ومخاوفه.. وأفكاره على الآخرين.. فعندما نكون في حالة توتر أو غضب.. قد نرى كلمات بريئة.. على أنها هجوم.. أو تصرفات عفوية.. على أنها إهانة..
ببساطة.. ما نحمله داخلنا.. يُغير الطريقة التي نرى بها العالم.. ومن هنا.. تظهر أهمية التوقف عن إصدار الأحكام السريعة.. فالتفسير الصحيح.. يحتاج إلى تأنٍ.. وسؤالٍ.. وتوضيح.. لا إلى إسقاط.. أو سوء فهم..
لا يُمكن للإنسان أن يفهم كل شيء بسهولة.. ولا ينبغي له أن يدعي ذلك.. لذا.. عندما لا تفهم حديث أحدهم.. أو تصرفه.. اسأل واستفسر.. قبل أن تصدر حكماً.. احرص على أن تكون كلماتك مرآة لنواياك الطيبة.. لا خنجراً يجرح الآخر بسبب تفسير خاطئ.. فإن كنت لا تفهم أحدهم.. لا تُفسره من قاموسك.. بل اقترب وافهمه من قاموسه هو.. حينها فقط.. لن تبني جسور التفاهم فحسب.. بل ستزرع بذور الإنسانية الحقة في كل لقاء..