قراءة بمدونة السلوك لعلاقة الحكومة بالاعلام 2009
د. محمد محروم
24-12-2024 09:50 AM
اعتبرت مدونة قواعد السلوك لعلاقة الحكومة بوسائل الإعلام التي أقرتها حكومة دولة سمير الرفاعي في عام 2009 ، خطوة جريئة في تحديد مسارات العلاقة بين الحكومة ووسائل الاعلام، وقد كانت دليلا على إدراك الحكومة لأهمية وسائل الاعلام ودورها في مسيرة التنمية الوطنية استنادا على الرؤية الملكية للإعلام التي تؤكد على ضمان حرية الصحافة واستقلاليتها، علاوة على تعزيز الممارسة الصحفية المهنية، حيث تقود المدونة بمبادئها إلى رسم صورة صريحة وواضحة غير ضبابية عن الحكومات وآليات عملها، بشكل يساعد على تكوين الرأي العام الأردني نحو هذه الحكومات بشكل حقيقي وواقعي دون أن يتأثر بأجندات ومسارات تتجاوز المصلحة الوطنية.
ويعد التفكير في إقرار مثل هذه المدونة انعكاسا وادراكا لمهمة وسائل الاعلام المجتمعية، وما تعكسه المدونة من تأثيرات إيجابية على مسيرة الإعلام الأردني، من خلال تمكينه من ممارسة دوره كسلطة رابعة تتولى الرقابة على أداء الحكومة ومؤسساتها، بالإضافة الى مكونات المجتمع من مؤسسات مدنية وجماعات وافراد، كما تعكس المدونة عمق الرؤية الحكومية التي استمدت من كتاب التكليف الملكي السامي في حينه، والتي تتجسد في ضرورة دعم مسارات مستقلة لوسائل الاعلام تعزز من مكانتها المجتمعية، وتخدم المصلحة الوطنية العليا في مرحلة مبكرة ، خصوصا قبل انطلاق ثورات الربيع العربي مما يدلل على نظرة مسبقة للإصلاح السياسي الذي يعزز المشاركة السياسية لمختلف الاطياف الأردنية، ويرسخ مفهوم العدالة الاجتماعية و الذي تؤدي فيه وسائل الاعلام دورا رئيسيا.
والمتمعن بأهمية مدونة قواعد السلوك لعلاقة الحكومة بوسائل الإعلام في عهد دولة سمير الرفاعي، يدرك أن هدف هذه المدونة هو تنظيم العلاقة مع وسائل الاعلام ونسجها بما يخدم المصلحة العامة ويعزز سلطة الاعلام الرقابية على مكونات المجتمع المختلفة، فممارسة وسائل الاعلام والصحفيين دورهم الرقابي ووظيفتهم في الضبط الاجتماعي أمر مهم ويتحقق من خلال استقلالية وسائل الإعلام القائمة على التجرد من المصلحة الخاصة.
وتكتسب المدونة أهميتها من كونها منعت ممارسة التأثير في اتجاهين، من خلال الحكومة نحو وسائل الإعلام، وبالعكس من خلال وسائل الاعلام نحو الحكومة، لتكون المصلحة العامة العامل الأكبر في رسم أي تأثير، وكانت المدونة قد تعرضت الى تعديل جذري في عام 2011، قاد الى إعادة الجدل حول مفهوم المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.
وتطرق التعديل الى مبدأين رئيسين في المدونة، المبدأ الأول والذي يتجلى في البند الخامس للمدونة والذي كان ينص على أن " تلتزم الحكومة بعدم تعيين اي صحفي او اي شخص عامل في اي وسيلة اعلامية في اي دائرة حكومية او مؤسسة رسمية او عامة او بلدية وذلك حفاظا على استقلالية وسائل الاعلام بما يمكنها من اداء دورها ومنعا لأي تضارب في المصالح، وسيكون التفرغ الكامل شرطا للتعيين في دوائر الحكومة ومؤسساتها وفي البلديات بما في ذلك وظائف المستشارين والناطقين الاعلاميين في الوزارات والمؤسسات الرسمية والعامة والبلديات، وتلتزم الحكومة بعدم الحصول على خدمات من الصحافيين بشكل دائم او مؤقت مقابل اي مكافأة مادية"، وهذا النص الذي ورد بهذه الصيغة كان مكسبا أساسيا لوسائل الإعلام والعاملين فيها حيث يعزز من قدرتهم على أداء المهمة الصحفية بمهنية عالية دون أي مؤثرات ويسهم في تحقيق توازن في الجسم الصحفي مما يعزز من مناعته ومكاسبه كجسم صحفي متمكن لا تحكمه مصالح خاصة .
ومن ناحية أخرى فإنه يفتح المجال نحو خلق فرص عمل لخريجي الصحافة والاعلام في القطاع الحكومي ويحقق العدالة في توزيع الفرص بين العاملين في القطاع الصحفي والاعلامي، علاوة على اغلاق المجال امام المحاباة والاسترضاء. ولكن التعديل الذي ورد فيما بعد عاد وأجاز الاستعانة بالخبرات الإعلامية في القطاع الحكومي مرة أخرى شريطة الموافقة المسبقة لمجلس الوزراء، مما أفقد المدونة الغاية التي وجدت من أجلها.
أما البند الاخر الذي كان من البنود المهمة أيضا في المدونة، فكان ينص على " اتخاذ ما يلزم لضمان عدم استخدام الاشتراكات في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى للتأثير على حرية الصحافة أو على استقلالية المؤسسات الصحفية. ولتحقيق هذه الغاية، ستتوقف كل الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية والعامة والبلديات عن الاشتراك المباشر في الصحف، وسيتم تلبية حاجات الوزارات والدوائر والمؤسسات عن طريق الشراء المباشر من السوق وفق معايير واضحة يقرها مجلس الوزراء وبما يضمن عدم التأثير على وسائل الإعلام من جهة والحفاظ على المال العام من جهة أخرى"، فوجود هذا النص أكد ان الحكومة في علاقتها مع وسائل الإعلام كانت تسعى الى تأطير العلاقة المالية مع وسائل الاعلام في اطار المصلحة العامة، مما يعزز جوانب الاستقلالية والقضاء على أي مداخل تقود الى فرض تأثيرات متبادلة، بالإضافة إلى ضمان توزيع المكاسب المالية بعدالة بين وسائل الإعلام بما تقضيه المصلحة العامة.
ولكن تم تعديل هذا البند الرئيسي في عام 2011 بحيث أعاد إجازة الاشتراك المباشر مع الصحف، وبذلك فقدت المدونة الغاية التي وجدت من أجلها مرة أخرى من خلال تعديل البندين السابقين. علما بأن هذين البندين شكلا جوهر المدونة التي وجدت معارضة وأدخلت الحكومة في اشتباك مع بعض الأوساط في الجسم الصحفي في حينه، كونها تهدد مصالحهم الشخصية على الرغم من أنها وجدت لهدف رئيس وهو الممارسة الصحفية المهنية التي تنسجم مع المصلحة الوطنية العامة وتقود الى الارتقاء بالمشهد الإعلامي الأردني بما يتناسب مع الرؤية الملكية للإعلام. ويحسب لحكومة دولة سمير الرفاعي في تلك الفترة جرأتها على ضرورة اصلاح علاقة الحكومة مع وسائل الاعلام بما يعكس الرؤى الملكية ويخدم المسار الوطني الأردني.
وما يدفع الى قراءة مدونة عام 2009 اليوم، أن العلاقة بين وسائل الاعلام والحكومة هي علاقة متلازمة ومتجددة ومتطورة، وتؤثر هذه العلاقة على مسارات عمل وسائل الاعلام وأدوارها الوظيفية في المجتمع، وبشكل خاص مسارات الصحافة الورقية اليومية في الأردن التي تعيش في حالة صراع للمحافظة على وجودها في إطار البيئة الإعلامية الرقمية، حيث كان من الممكن أن تسهم المدونة الأساسية – التي صدرت في عام 2009- في مواجهة هذه الأزمة الخانقة أو إطالة أمد المقاومة لأزمة الصحافة الورقية، مما يعزز فرص وجودها من خلال سياسة الإعلان والاشتراكات التي كانت تضمنها المدونة قبل التعديل.
وفي ظل البيئة الإعلامية الرقمية الأردنية الحالية، فإن شأن مدونة قواعد السلوك من الشؤون الضرورية التي تستلزم من الحكومة العمل على إعادة صياغة مدونة قواعد السلوك لعلاقة الحكومة بوسائل الإعلام تراعي المستجدات التكنولوجية والمهنية في المجال الإعلامي، وتتماشى مع مخرجات اللجنة الملكية للتحديث السياسي، بالإضافة إلى صياغة مدونة سلوك تحكم علاقة الفضاء الافتراضي بالمجتمع، وأخرى تحكم العلاقة بين وسائل الاعلام والمؤسسات الاقتصادية الأردنية التي تمارس تأثيرها على وسائل الإعلام من خلال الإعلان التجاري، مما يُسهم في بلورة مشهد اعلامي وصحفي تحكمه المصلحة العامة كأولوية وطنية تتلاءم مع مسيرتي التنمية والإصلاح.