العدالة الانتقالية في سوريا (3/3)
د. ليث كمال نصراوين
24-12-2024 12:46 AM
إلى جانب عنصري الملاحقة الجنائية وجبر الضرر، فإن العدالة الانتقالية في سوريا يفترض أن تتضمن مرحلتين اضافيتين هما الإصلاح المؤسسي ولجان تقصي الحقائق، حيث يُقصد بالإصلاح المؤسسي مجموعة الإجراءات التي يجري اتخاذها لتحقيق الإصلاح البنيوي وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة ومراجعة تشكيلها، وذلك بهدف تفادي الأخطاء التي وقعت خلال فترة الحكم الاستبدادي طيلة العقود الماضية من الزمن.
إن العلاقة بين الإصلاح المؤسسي وباقي مراحل العدالة الانتقالية واضحة وجليّة؛ إذ لا يمكن الحديث عن محاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وتعويض الضحايا، دون البدء بمراجعة شاملة للمؤسسات الوطنية التي تورطت في جرائم الاعتداء على الشعب السوري، وذلك من حيث طبيعة الشخوص القائمين على إدارتها والصلاحيات المناطة بهم.
فهذه المرحلة تهدف إلى إدخال تعديلات هيكلية على بعض المؤسسات الوطنية الهامة في سوريا ذات الصلة بالانتهاكات الجسيمة وخاصة الأمن والقضاء، وتطهيرها من العناصر الذين كانوا مسؤولين عن الاعتداءات الصارخة على حقوق الإنسان، وذلك لضمان عدم تكرار تلك الممارسات مرة أخرى في المستقبل.
إن إعادة هيكلة المؤسسات الوطنية ضمن مرحلة الإصلاح المؤسسي يمكن أن تشمل أيضا العاملين في هذه الكيانات الحكومية والذين يتم بالعادة اخضاعهم لبرامج تدريبية شاملة حول أسس الحوكمة الرشيدة وسيادة القانون. كما تشمل مرحلة الإصلاح المؤسسي مراجعة المنظومة التشريعية التي تحكم علاقة الفرد بدولته وذلك ابتداء من الدستور الوطني، مرورا بالقوانين الناظمة للحقوق المدنية والسياسية، وانتهاء بالانفتاح على المجتمع الدولي والمصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تكفل حماية إضافية لحقوق الإنسان.
ولا يمكن للإصلاح المؤسسي أن يكتمل دون إيجاد حلول سريعة لظاهرة انتشار السلاح وحمله بين المواطنين والموظفين المسؤولين في النظام السوري السابق، حيث يجب الإسراع في نزع السلاح وتسريح قادة الجيش والقوى الأمنية، والعمل على توفير الوسائل اللازمة لترسيخ العدالة الاجتماعية وتمكين المحاربين السابقين من إعادة دمجهم في المجتمع المدني.
أما العنصر الأخير من عناصر العدالة الانتقالية فيتمثل في تشكيل لجان تقصي الحقائق، حيث يعتبر الوصول إلى الحقيقة من أبسط حقوق الضحايا في المرحلة الانتقالية في سوريا. ويقصد بهذا الحق أن يتم الكشف عن هوية الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم بحق الشعب السوري وطبيعة تلك الانتهاكات خلال فترة الحكم الاستبدادي السابق، لا سيما حالات الاختفاء القسري والإعدام خارج القضاء والتعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وقد أقر القانون الدولي بحق الأفراد والمجتمع في معرفة ظروف الاعتداءات الخطيرة على حقوق الإنسان والمسؤولين عنها، حيث تقرر اعتبار يوم 24 آذار من كل سنة اليوم الدولي للحق في معرفة الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكرامة الضحايا.
إن معرفة الحقيقة خلال فترة العدالة الانتقالية في سوريا يعد حقا أصيلا يثبت لضحايا جرائم حقوق الإنسان أنفسهم ولأقاربهم أو من ينوب عنهم. فمفهوم «الضحية» لغايات معرفة الحقيقة له بعد جماعي كرسته المبادئ الأساسية بشأن حق ضحايا الانـتهاكات الصارخة لقانون حقوق الإنسان الدولي، والتي تنص على أن لكل شعب حق غير قابل للتصرف في معرفة الحقيقة عن أية انتهاكات لحقوق الإنسان.
إن أهمية مرحلة تقصي الحقائق في سوريا تكمن في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والإقرار بها، ومعرفة مصير السجناء المفقودين، ومساعدة الضحايا على طي صفحة الظلم والاضطهاد الذي تعرضوا له عبر الاطلاع أكثر على الأحداث التي عانوا منها، وذلك من أجل تفاديها في المستقبل.
ومن أبرز الآليات التي عادة ما يجري تنفيذها خلال هذه المرحلة من مراحل العدالة الانتقالية، تشكيل لجان تحقيق غير قضائية من مؤسسات المجتمع المدني والدولي تقوم بتقصي الحقائق حول طبيعة جرائم حقوق الإنسان، وذلك من خلال جمع الأدلة ومقابلة الضحايا والشخصيات السياسية والأمنية التي كانت في موقع المسؤولية. وترتبط هذه المرحلة بشكل وثيق بفكرة العدالة الجنائية، والتي تقوم على أساس إحالة المتورطين بارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان إلى القضاء ومحاكمتهم عنها.
كما يظهر تأثير مرحلة معرفة الحقيقة بشكل ملحوظ على مرحلة جبر الضرر، حيث تسهم لجان معرفة الحقيقة في توفير قاعدة معلومات هامة عن ضحايا النظام السابق وعائلاتهم، مما يسهل عملية تقديم التعويضات المالية لهم، بالإضافة إلى كافة أشكال الدعم الصحي والنفسي للمتضررين من جرائم الاعتداءات على حقوق الإنسان.
إلا أن مرحلة تقصي الحقائق لن تكون سهلة؛ حيث سيعتري عمل لجان معرفة الحقيقة العديد من الصعوبات أهمها غياب المجتمع المدني السوري الذي عادة ما يقوم بهذه المهمة خلال فترة العدالة الانتقالية وعدم وجود استقرار سياسي لانجاح هذه المهمة، بالإضافة إلى مخاوف الضحايا والشهود في الإدلاء بشهاداتهم، وغياب الثقة الكاملة بالجهات والأفراد الذين استلموا السلطة بعد سقوط النظام السوري السابق.
خلاصة القول، إن العدالة الانتقالية بعناصرها الأربعة من محاكمة المسؤولين وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات ومعرفة الحقيقة تعد من الفترات الزمنية الهامة من عمر الدولة السورية بعد سقوط نظام الحكم فيها. وعليه، فإن الحكمة التشريعية تقتضي إصدار قانون خاص بالعدالة الانتقالية، وذلك أسوة بقانون إرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها لعام 2013 الذي صدر في تونس بعد سقوط نظام الحكم الأسبق لزين العابدين بن علي.
الرأي