حتمية السقوط وحتمية الصعود
د. محمد بزبز الحياري
23-12-2024 10:16 AM
في عام ١٩٧٦ تنبأ الطالب الفرنسي "ايمانويل تود" بسقوط الاتحاد السوفييتي عندما كان هذا الاتحاد في عز مجده وسطوته العالمية وبذروة حربه الباردة مع الولايات المتحدة الامريكية ، كان هذا التنبوء هو مضمون بحث لهذا الطالب بعنوان " السقوط الاخير" لنيل درجة الدكتوراة من جامعة كمبردج البريطانية،وكان عمره وقتها لا يتجاوز الخامسة والعشرين عاما....لم يعتمد تود في بحثه على الطرق المعروفة بالتنبوء حيال ذلك، من مثل التهديدات الخارجية المعادية، وادوات التحليل السياسي التقليدية، بل اعتمد على الدراسات السكانية(الديمغرافية) فقام بتشريح ودراسة المجتمع السوفييتي وفق اسس منهجية، وبنى على ذلك استنتاجاته بحتمية السقوط، وقوبلت هذه الدراسة وقتها بالاستهجان والاستغراب وعدم الجدية، لكن تنبؤاته ثبت صحتها خلال خمسةعشر عاما فقط، وسقط الاتحاد السوفييتي، واصبح تود بعدها من المع المفكرين والفلاسفة في فرنسا والغرب لغاية الان، وتؤخذ آراؤه و دراساته بالحسبان وعلى اعلى المستويات.
يعود "تود" هذا العام وينشر كتابا جديدا بعنوان "هزيمة الغرب" متنبأً ايضا بسقوطه الوشيك، ومعتمدا عل نفس الطريقة بالدراسات الديمغرافية والانثربولوجية للمجتمعات الغربية بشكل عام وامريكيا بشكل خاص، فهذه المجتمعات تحمل اسباب سقوطها من داخلها وبدرجات متفاوته بين بلد وآخر، واهم هذه الاسباب التخلي عن القيم والثقافة الدينية السليمة، والانصياع شبه التام لأيديولوجيا الهويات الفرعية و الجنسية في صياغة مستقبل الحضارة الغربية بشكل عام، والاهم من ذلك التصدر الكارثي لليهود والكاثوليك للمشهد السياسي وخصوصا في الولايات المتحدة الامريكية....كل ذلك وغيره يؤشر إلى اضمحلال الغرب، وينذر بهزيمته وسقوطه عاجلا او آجلا ، ويضيف تود على ذلك اسبابا اخرى مثل انتشار قيم وسلوك النيوليبرالية والعولمة والسياسات الاقتصادية التي تعمق التفاوت الطبقي وتمايز شرائح المجتمع التي كانت في الامس القريب اسبابا للسقوط الحتمي للاتحاد السوفييتي.
أسوق هذه المقدمة للإشارة للنظام العالمي الجديد الذي يتشكل شيئا فشيئا هنا وهناك، وسقوط قوى وصعود أخرى، ولنأتي للأهم بالنسبة لنا، منطقتنا، فقبل ايام اتم حزب البعث سقوطه الحتمي، بإلانهيار الدراماتيكي لشقه السوري وذلك بعد عشرين عاما من سقوط شقه العراقي وبهذا يكون قد اسدل الستار على حزب عاث دما وفتكا بأهله وبالمنطقة، لأكثر من نصف قرن،وقد نسحب معظم اسباب سقوط الحزب الشيوعي وقرب سقوط الرأسمالية كاسباب مشابهة لسقوط حزب البعث مع اختلافات بسيطة وهامشية.
ولا نقول حزب البعث والعراق وسوريا فقط، بل نقول ان الامة العربية وبآخر مائة عام تعيش بأزمات متتالية و تتجول بصحراء التيه والتخبط مابين القومية والشيوعية والرأسمالية والطائفية وحتى العائلية المقنعة بالحزبية...وهل هذا التيه كان بفعل ضحالة ادراك وفقدان عقيدة، او بفعل فاعل او مجتمعا، فهذا ليس مجال بحثنا هنا ، لكنه بالنهاية حصل، والسقوط الحتمي يتوالى هنا وهناك ومرشح للتسارع، وكون الطبيعة تأبى الفراغ، والسقوط الحتمي يجب ان يقابله صعود حتمي لإكمال معادلة الاحلال الطبيعي وسد الفراغ ولو بعد حين.
اذا فالسؤال الكبير الذي يُطرح وبشكل منطقي: ماهي القوى المؤهلة للصعود وسد الفراغ؟؟.
وللحقيقة هناك عدة قوى مؤهلة للصعود الحتمي ان امتلكت اسباب الصعود وطورتها، وكما اثبت تود ان اهم اسباب سقوط الاتحاد السوفييتي وقرب سقوط الغرب، هو غياب القيم والثقافة الدينية السليمة ، اذا فالمؤهل للصعود هي المجتمعات والحركات التي تعيد تمسكها بهذه القيم والثقافة ، لكن وبنظرة موضوعية فقد اسيء فهم وتوظيف هذه الحركات، او انها فعلا انحرفت بوصلتها ذاتيا في كثير من الاحيان وتطرفت من اقصى اليسار بالثقافة الدينية التي وقعت بفخ الايماآت الغربية وثقافته، او لاقصى اليمين واتخذت من التكفير والقتل والتدمير منهجا لها، الا ما رحم ربي من الحركات الوسطية المعتدلة التي يُعقد الامل عليها حاليا بالصعود وسد الفراغ.... وهنا نواجه سؤالا آخر قد يكون اشد صعوبة من الاول وهو: هل هذه الحركات مؤهلة فعليا للصعود وسد الفراغ ام نستمر بالتيه والتخبط؟.
يقول احمد الشرع قائد الثورة السورية : "ان الحركات الدينية تجيد فن المعارضة ولا تجيد فن الحكم"، وكم اثلج صدري بقوله هذا ، كون مجرد طرح هذه الحقيقة بشكل مجرد و علني دون تزييف وتجميل ، هو اعتراف بمشكلة الحركات الدينية تاريخيا وفشلها الماثل للعيان بالحكم في عدة مناطق، هذا الفشل الذي ادى لتشكيل صورة نمطية سلبية حول هذه الحركات، وبالتالي معاداتها من باقي القوى على الساحة ومن الخارج، وان الاعتراف بهذه المشكلة ودقة تشخيصها وعدم المكابرة والتعنت، هو خطوة بالاتجاه الصحيح لمعالجتها وتطويرها اولا ثم تلافيها تاليا، اما فشلهم بالحكم بالتجارب السابقة بحد ذاته فقد يعزى الى عدة اسباب اهمها قلة الخبرة ومن ناحية اخرى عدم التقدير الصحيح لموازين القوى على الارض سواء كانت داخلية او خارجية ، ثم عدم التحوط والتعامل الحصيف مع قوى الشد العكسي داخل المجتمع وخارجه.
ان نجاح الثورة السورية وتصريحات قادتها وسلوكها لغاية تاريخه، خصوصا وانها مدعومة بحاضنة شعبية داخلية وخارجية على امتداد الوطن العربي والاسلامي تبعث على التفاؤل والارتياح، لكن بحذر ، وندعو لهذه التجربة بالنجاح والتقدم بخطوات محسوبة اخذة بعين الاعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية واستيعابها والتعامل معها بحكمة ورشد حتى لو كانت هذه الخطوات بطيئة، علها تشكل نموذجا يحتذى للقوى الصاعدة وسد الفراغ المطلوب ، وان انتكاسها لا قدر الله يشكل حالة احباط عارمة لا احد يتمناها وستعود بسوريا والامة عقودا للوراء لا قدر الله.
هنا بالاردن فقد ادرك نظام الحكم مبكرا ومنذ نشوء الدولة( وهو بالمناسبة اقدم نظام بالمنطقة) ادرك حقائق التاريخ والجغرافيا بحصافةوكان الاكثر فهما لها ومدعوما بالقبول والمساندة الشعبية، ومواكبا ومستجيبا للمتغيرات الاقليمية والدولية وشكل نموذج فريد في الحكم قل نظيره، في حالة من التسامح والاحتواء والالتزام بالثوابت القومية والدينيةوكان ملاذا لضحايا الانظمة القمعية التي توالت بالسقوط ومارس الاردن دوره القومي والاخلاقي تجاههم متجاوزا اعتبارات المصالح الذاتية الضيقة، كل هذا كان جنبا الى جنب بالاعتدال والاحتواء لجميع القوى بالمنطقة والعالم، ولم ينسَ حظه من البراغماتية السياسية المطلوبة للمحافظة على مستقبل مسيرته، علما بانه لم يسجل على الاردن طوال هذه المسيرة تخليه عن اي بادرة للعمل المشترك على المستوى العربي والاسلامي ، وحقا لنا ان نفتخر ونستمر.