العبادي يكشف تفاصيل قصة تمثال الملك الحسين الذي أمر بإزالته
22-12-2024 03:24 PM
عمون - سرد الوزير والنائب وأمين عمان الاسبق الدكتور ممدوح العبادي قصصا مثيرة في مؤلفه الصادر اخيرا (السياسي "الامين") تنشر عمون ابرزها.
وسرد العبادي في مذكراته قصة تمثال الملك الراحل الحسين بن طلال عام 1995 إبان توليه أمانة عمان، والذي أزيل بأمر من الملك، قائلا إنه كان من المفترض أن يحضر الملك الحسين للاحتفال بإزالة الستار عن التمثال "وانتظرنا حضوره نحو ساعتين من الزمن، وعند الاستفسار عن موعد حضوره المتوقع ابلغوني أن جلالته قد اتجه إلى محافظة المفرق".
وأضاف، أنه في المساء تلقى اتصالا من رئيس التشريفات الملكية آنذاك أيمن المجالي قال فيه "إن جلالة سيدنا يتمنى عليك إزالة التمثال"، الأمر الذي استشاطه غضبا.
وتاليا القصة كما اوردها العبادي:
هاتفني ذات نهار رئيس الديوان الملكي خالد الكركي وأخبرني بأن هناك وفدًا كوريا سيحضر إلى عمان، بهدف رسم عمل بانورامي يرمز للثورة العربية الكبرى ويحاكي عملاً فنيًّا في موسكو، وذلك عندما حاول نابليون احتلالها، ولا يزال يعرض هذا العمل هناك.
وقال لي معالي الدكتور خالد بأن أحد أعضاء الوفد يريد استكشاف مدينة عمان ومعالمها؛ ليضع بعض الأفكار التجميلية للمساحات في مدينة عمان، فرحبت بالفكرة. وبالفعل جاء هذا الفنان وخصصت له سيارة مع سائقها من الأمانة، لكنه طلب أن تتكفّل سفارة بلاده بالأمر ، وقام بجولة مطوّلة في المدينة، وعاد إلي قائلاً بأن مدينة عمان جميلة ونظيفة، لكن ساحاتها العامة فقيرة فنيا، وأضاف: الديكم أقدم حاكم في العالم لكن ليس له تمثال في أي من الساحات والميادين، لا بد أن يصنع تمثال للملك الحسين وينصب في ساحة من ساحات المدينة العامة».
شكرته على الاقتراح، وفي ذهني بعض التحفظات السياسية والدينية والاجتماعية، والموروث التاريخي حول فكرة إنشاء تماثيل، وذلك على الرغم من قناعتي بأهمية فكرة هذا النوع من الأعمال الفنية في بلد مثل الأردن.
أخبرته أنني سأستشير بعض المراجع، وهاتفت مروان القاسم رئيس الديوان الملكي حينها للاستشارة، وطرحت عليه اقتراح الفنان الكوري لنحت التمثال. رد علي بالقول: «والله يا أبو صالح إذا سألنا جلالة الملك فسيرفض، أما إذا أنجزنا التمثال وشاهده فأعتقد أنه سيكون مسرورًا.» بعد فترة وجيزة، حضر ثلاثة أو أربعة من الفنانين الكوريين وشرعوا بالتصميم والتحضير للتمثال، وخصصنا لهم موقعًا لعمل الورشة في منطقة خلدا ، وبدأت مع مرور الأيام تتضح معالم التمثال، وكان بالنسبة لي عملاً فارقًا.
في إحدى المرات التقيت بالسيدة ليلى شرف، وأخبرتها أننا نعمل على مشروع تمثال للملك الحسين، فسألتني عن الموقع وذهبنا معا إلى هناك، وكانت في غاية البهجة والسرور عندما اطلعت على أعمال الورشة، والملامح الأولية للتمثال.
قالت لي: «هذا عمل جيد جدا، ويعطيك العافية».
في وقت لاحق وردني كتاب خطّي من مستشار جلالة الملك الحسين للشؤون الدينية في الديوان الملكي، يتضمن اعتراضًا على المشروع لاعتبارات دينية، مؤكدًا حرمة نصب التمثال، فانصدمت وطلبت من القائمين عليه وقف العمل به. تحدثت معي لاحقاً السيدة ليلى شرف مجددًا لتسألني عما آلت إليه أوضاع التمثال، فقلت لها بأننا أوقفنا العمل به، وذكرت لها الكتاب الخطي من المستشار الديني، وقلت لها: «لا أسمح لأحد أن يزاود علي، سواء دينيا أو وطنيا، وأنا أعلم الآخرين الدروس بعدم النفاق.
بعد أيام كنت في دعوة غداء في منطقة أبو علندا في منزل عبد الرزاق الحنيطي وخلال عودتي تلقيت اتصالاً من السيدة ليلى شرف على هاتف السيارة، وقالت لي بأن الأمير زيد بن شاكر رئيس الوزراء يريد أن يتحدث إليك، فأعطته الهاتف، وسألني فورًا: «لماذا أوقفت العمل بالتمثال؟ ، فشرحت ما حصل معي، وما قلته للسيدة ليلى في آخر مرة ، فقال الأمير مجدّدًا: «أنت لمن تتبع»؟، فقلت لرئيس الوزراء». عندها أكد قائلاً ، وفق ما أذكر : نعم تتبع لي وليس لأي جهة أخرى، غدا سأزور الموقع مشيا من رئاسة الوزراء».
انتهت المكالمة، وبالفعل حضر رئيس الوزراء زيد بن شاكر مشيا على الأقدام من مكتبه في الرئاسة إلى موقع ورشة تركيب التمثال، وتفقد التجهيزات وسير العمل.
أما الساحة التي كان من المخطط نصب التمثال فيها، فهي الساحة المقابلة لمبنى رئاسة الوزراء، ومطلّة على الشارع الرئيسي مباشرة، ويصعد له المارة عبر بضع درجات ونقلت شاشة التلفزيون الأردني زيارة دولة الرئيس إلى ذلك الموقع.
في وقت لاحق، اتصلت بي السيدة ليلى شرف مرة أخرى، وقالت لي: «هل تعلم من كان عندي في البيت عندما كلّمك أبو شاكر ! .. جلالة الملك الحسين وجلالة الملكة نور» سعدتُ بما سمعت وعدت إلى مواصلة العمل بالتمثال، وكنت فخورا بأننا صنعنا عملاً استثنائيًا للمرة الأولى، وتم اعتماد قاعدة من الرخام للتمثال المنحوت من البرونز، وأوشكنا على الانتهاء من المشروع قبيل التحضير للاحتفال بعيد ميلاد الملك الحسين الستين، وكان العمل في التمثال قد استغرق نحو عام من الزمن، بما فيها فترات التوقف.
دعينا يومها للاحتفال في قصر رغدان العامر للاحتفال بعيد جلالة الملك، بحضور نحو 20 من الشخصيات الوطنية، وألقى يومها رئيس الوزراء كلمة أمام الملك، مستأذنا منه إقامة احتفالات عامة بهذه المناسبة. وعندما خرجنا من الديوان الملكي، التقط لنا مصوّر الديوان عند الدرج صورة تذكارية مع جلالة الملك الحسين، والأمير زيد بن شاكر ، تشبه صورة الحكومات الجديدة المكلفة بعد أداء اليمين الدستورية.
بعدما انتهينا، ناداني رئيس الوزراء زيد بن شاكر ، وكان إلى جانبه جلالة الملك الحسين يتحدثان قرب النافورة إياها في قصر رغدان، وسألني أبو شاكر «إن كنا جاهزين ، فأكدت ذلك، فقال متابعا: يا الله هلأ جايينكم.
سارعت إلى الموقع، وطلبت من العاملين تجهيز المكان وتنظيفه جيدا لاستقبال جلالة الملك الذي كان من المخطط أن يزيل الستار عن التمثال، ومرت يومها بالصدفة حافلة لسياح من إسبانيا ولم يكن التمثال قد غطي بعد، فتوقفوا عند الموقع ونزلوا لالتقاط الصور التذكارية . انتظرنا حضور جلالة الملك الحسين نحو ساعتين من الزمن، وعند استفساري عن موعد حضوره المتوقع، أبلغوني بأن جلالته قد اتجه إلى محافظة المفرق، وأنه ربما سيحضر بعد الانتهاء منها، فقلت: «لو لم يأت اليوم لا مشكلة في ذلك، ويمكن أن نحتفل بإزالة الستار عن التمثال غدًا».
في المساء، تلقيتُ اتصالاً من رئيس التشريفات الملكية أيمن المجالي استهله بمديح إنجازاتي وشجاعتي، فقلت له مباشرة: «شو الموضوع»؟، فقال: «إن جلالة سيدنا يتمنى عليك إزالة التمثال.
أغلقت الخط ، واستشطتُ غضبًا، وإذا باتصالات أخرى وردت إلى وكيل الأمانة تطلب إزالة التمثال، فقلت منفعلاً: والله اللي بشيل التمثال غير أكسر رقبته.
غادرت إلى البيت ومشاعر الاسيتاء والحنق تتملكني، وعلمتُ أن التمثال أزيل في المساء. واللافت للنظر أن وكالات الأنباء الأجنبية كانت سباقه لتغطية إزالة التمثال بشكل ملفت للنظر، وكأنهم كانوا يعلمون بالخبر قبلنا. بعدها سرت شائعات كثيرة ومسيئة حول موضوع التمثال، لم أعلق على أي منها، والتزمت الصمت طويلاً، إلى أن أقيم احتفال بعد نحو شهر في المركز الثقافي الملكي برعاية جلالة الملك الحسين، ولا أذكر ما هي المناسبة. وبعد أن أنهى جلالته كلمة ألقاها، نزل من على درجات المسرح إيذانًا بالخروج، وكنت جالسا في الصف الثاني، فتوقف عندي لحظات، وقال بابتسامة: اعتزازي فيك ليس له حد».
كانت اللفتة الملكية رسالة واضحة تنفي صحة الإشاعات المتداولة التي تحدثت عن إقالتي وغضب جلالته منّي ، وكان لوقفته أكثر من دقيقة وسط الحشود في المكان أثر كبير في نفسي، ولا أشك للحظة بأن جلالته قصد تطييب خاطري وتجديد ثقته بي على الملأ .
أما المصوّر يوسف العلان، فقد أسر لي بعد أشهر من الحادثة، بأنه سمع هو والصحفية الأردنية كارولين فرج، حديث رئيس الوزراء زيد بن شاكر لي في احتفال الديوان الملكي، وتأكيد الرئيس حضوره وجلالة الملك إلى موقع احتفال التمثال، لكنني قلت لهم: إذا انتوا سمعتوا إشي عن التمثال أنا ما سمعت». أما صديقي المهندس فلاح العموش ، فكان قد روى لي لاحقاً، عما جرى في الكواليس ليلة إزالة التمثال، بأن الصحافة كانت قد أبلغت بأن الملك الحسين أمر بإزالة التمثال، ما دفع وسائل الإعلام للحضور، لمعرفة إذا كنت ما زلت في الموقع الوّح بتهديداتي العفوية، محذرًا من الاقتراب منه، وأن مهندسي الأمانة ومعهم فلاح كانوا يتنظرون مني مغادرة الموقع حتى لا تتم إزالته أمام ناظري.
لدي يقين بأن التمثال لم يتم التخلص منه ، وبأنه محفوظ اليوم في مكان ما؛ لأن الإزالة تمت وهو في حالته الكاملة من دون تحطيم قناعتي الشخصية بأن التماثيل أعمال فنية حضارية ولا صلة لها بالأصنام. فلا أحد يصلي اليوم أمام تمثال.