الحموري يكتب: المواسير الحكومية المتعرجة
صالح سليم الحموري
21-12-2024 04:11 PM
تواجه المؤسسات الحكومية اليوم تحديات كبرى تجعلها تبدو وكأنها تقف أمام حواجز لا يمكن تجاوزها بسهولة. من تصاعد النفقات وتراجع الكفاءة إلى تراكم المهام وضعف الروح المعنوية للموظفين، تُظهر هذه المشكلات تعقيداً يشبه الشبكة المتشابكة من الأعراض التي تخفي وراءها سبباً رئيسياً واحداً. وكما أشار "كين ميلر" في كتابه "تجميل الإدارة الحكومية"، فإن جميع هذه المشكلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بضعف الكفاءة المؤسسية.
حين ننظر إلى أداء المؤسسات الحكومية، نجد أنها أشبه بشبكة من المواسير المتعرجة، التي كان من المفترض أن تنقل المياه -أي الخدمات- بسلاسة إلى المتعاملين. لكن هذه المواسير أصبحت ممتلئة بالالتواءات والاختناقات، مما يعيق التدفق الطبيعي للخدمات ويؤدي إلى إهدار كبير في الوقت والموارد.
المواطنون الذين يلجؤون إلى هذه المؤسسات للحصول على تصاريح أو خدمات، غالباً ما يواجهون عقبات لا مبرر لها، تبدأ من الروتين الإداري المملّ وتمتد إلى الإجراءات غير الضرورية التي تجعل إنجاز المهام البسيطة أمراً معقداً.
إن إصلاح هذه الأنظمة يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة المشكلة. "البشر" وهم "الموظفين" بطبيعتهم مبدعون ومرنون وقادرون على التكيف مع التغيرات إذا ما أُتيحت لهم الفرصة. لكن العقبة الرئيسية ليست في الأفراد أنفسهم، بل في الأنظمة التي تحد من إمكانياتهم وتُعيق تقدمهم. وكما قال سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "المؤسسات ليست مجرد مبانٍ أو أنظمة، بل هي أرواح بشرية تسعى لتحقيق الأفضل." هذه الرؤية تلخص ما يجب أن تكون عليه المؤسسات الحكومية: بيئات ديناميكية تدعم الإبداع والكفاءة، لا أنظمة معقدة تُعيق التقدم.
يمكن تحسين الكفاءة من خلال إعادة تصميم العمليات المؤسسية لتكون أكثر بساطة وفعالية. فبدلاً من الالتواءات والاختناقات التي تعرقل التدفق، يجب أن تكون العمليات قصيرة ومستقيمة، مما يسمح بإنجاز المهام بسرعة ودقة. عندما تُختصر الخطوات الإدارية غير الضرورية، وتُبنى الأنظمة على أسس من المرونة، تصبح المؤسسات قادرة على تحقيق نتائج أفضل بكثير مما هي عليه الآن.
من المبادئ التي يمكن تطبيقها لتحقيق ذلك ما يُعرف بـ"مبدأ الواحد"، وهو فكرة بسيطة تقوم على معالجة كل مهمة فور وصولها، بدلاً من انتظار تجميعها مع مهام أخرى. هذه الطريقة تقلل زمن الانتظار بشكل كبير وتحسن الإنتاجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن معالجة عنق الزجاجة -أي النقاط التي تتعطل عندها العمليات- يمكن أن يؤدي إلى تحسين جذري في الأداء. بدلاً من محاولة إصلاح كل شيء دفعة واحدة، يكفي التركيز على هذه النقاط الحرجة ومعالجتها بعناية. وكما قال بيتر دراكر، "الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار"، فإن الأنظمة الجيدة هي التي تعزز الثقافة الإنتاجية وتُترجم الاستراتيجيات إلى واقع ملموس.
التغيير الجذري في المؤسسات الحكومية ليس خياراً، بل ضرورة. عندما تصبح العمليات أكثر انسيابية، والخدمات أسرع وأقل تكلفة، تتحسن العلاقة بين الحكومات والمواطنين، ويُعاد بناء الثقة التي تُعد الأساس لأي إدارة ناجحة. إن الطريق نحو مؤسسات مذهلة لا يبدأ بتغيير الأفراد، بل بتغيير الأنظمة التي تديرهم.
وعندما تحقق المؤسسات هذا التغيير، فإنها لا تخدم مجتمعها فحسب، بل تضع معايير جديدة للإدارة الحكومية في جميع أنحاء العالم.
وكما قال ايضاً سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "الحكومة ليست سلطة على الناس، بل هي سلطة لخدمة الناس." هذه العبارة تلخص الهدف الأسمى الذي تسعى إليه أي حكومة ناجحة. تحقيق هذا الهدف يتطلب جهداً جماعياً وإرادة قوية لإحداث تحول حقيقي يجعل المؤسسات أكثر كفاءة وابتكاراً، ويضعها في خدمة الإنسان بكل ما للكلمة من معنى.
* صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية