مجاهدٌ كتب بدمه قصيدة الوداع الأخير
يحيى الحموري
20-12-2024 09:02 PM
على ثرى فلسطين، حيث الأرض تحتضن الحكايات وترضعها من شرايينها، قامت ملحمةٌ لا تشبه غيرها، وحفر مجاهدٌ قسامي بدمه اسماً لن تمحوه الأزمنة. كانت سماء مخيم جباليا تلك الليلة ثقيلةً بالكتمان، وكأن النجوم امتنعت عن الشهادة، خشية أن تخون عظمة المشهد. في هذا الركن المغمور بالألم، وقف رجلٌ واحدٌ أمام آلة الموت الصهيونية، يواجه برودة الحديد بلهيب الإيمان، وعجز المادة بإرادةٍ أزلية تنتمي إلى الغيب.
هذا الرجل لم يكن إنساناً بسيطاً، بل كان فكرةً تجسدت في صورة إنسان، قُدّت ملامحه من الصبر، وصُهرت عظامه في أفران الكرامة. لم يكن يحمل سلاحاً وحسب، بل كان يحمل رسالة السماء إلى الأرض: أن الإنسان حين يتعرى من خوفه يصبح قوةً لا حدود لها، ونوراً لا تطفئه الريح.
اقترب المجاهد من قناصٍ صهيوني ومساعده، ليس كمن يتسلل إلى معركة، بل كمن يطرق أبواب الموت ويدعوه إلى وليمة الفداء. على مسافة الصفر، حيث تختلط الأنفاس وتتشابك النظرات، صرخ في وجه الموت صرخةً لا يسمعها إلا من ألقى الدنيا خلف ظهره، وأجهز على القناص ومساعده. لكنه، في لحظة الانتصار، لم يركن للراحة، ولم ينظر خلفه. رأى أمامه حلقةً أوسع من البطولة، وكان يعلم أن للملحمة ثمناً لا يُدفع إلا بالروح.
فماذا يفعل من تخطى حدود الممكن؟ لقد غيّر لباسه، وارتدى زي جنود الاحتلال، كأنما أراد أن يُريهم كيف يُقهرون بأسلحتهم، وكيف يتحول الخوف الذي زرعوه في الأرض إلى سلاحٍ يرتد في صدورهم. انطلق نحو قوةٍ عسكرية صهيونية، وكل خطوةٍ كانت ترسم على الأرض لوحةً لا تُقرأ إلا بلغة الخلود. وحين وصل إليهم، وحاصرتهم دهشته، فتح صدره المليء بالإيمان، وفجّر نفسه، ليحيل أعداءه إلى رماد، ويرتقي إلى العلا، تاركاً خلفه صرخةً ترتج لها أعمدة السماء.
أيُ قلبٍ هذا الذي يحمل كل هذا اليقين؟ وأي عقلٍ هذا الذي يُرغم الموت على الركوع؟ هذا المجاهد كان أكثر من بطل، كان أسطورةً تسير على قدمين. كان نبضاً من الماضي، حيث عنترة يواجه أعداءه وحيداً، وكان ومضةً من المستقبل، حيث الحرية تتجسد في أرواح من آمنوا أن الموت طريق الحياة.
لقد علّمنا هذا الشهيد درساً أبدياً: أن الكرامة لا تُطلب، بل تُنتزع من مخالب الطغاة، وأن الإنسان حين يقرر مواجهة قدره، يصبح أقوى من الموت نفسه. لقد حوّل جسده إلى قنبلةٍ من نور، وفجّر في عقولنا سؤالاً لن يُمحى: كيف يمكن لهذا الشعب، المحاصر بالحصار، والمثقل بالجراح، أن يُنجب أبطالاً يتخطون حدود الأسطورة؟
يا فلسطين، كم مرةٍ ستكتبيننا بدمائك؟ كم مرةٍ ستُشرعين أرواح أبنائك لتصير جسوراً إلى الحرية؟ يا أمّ الشهداء، كم من مجاهدٍ سيغزل من عتمة الليل ضوءاً يهزم الطغيان؟
أيها العالم، هذه ليست قصةً تُحكى، بل وجعٌ يقطر من سماء فلسطين، وصيحةُ وداعٍ تدوي في أعماق الأرض. هذا المجاهد لم يمت، بل انتصر. انتصر على خوفه، انتصر على عدوه، وانتصر على قوانين الطبيعة نفسها.
إنها قصة الإنسان الذي تجاوز ذاته، وفجّر في لحظةٍ واحدةٍ كل معاني البطولة والحرية. إنها قصيدةٌ كتبها بدمه، ليقول للعالم: نحن هنا، رغم الجرح والموت، نولد من رمادنا كطائر الفينيق، ونزرع في كل قطرة دمٍ شجرةً للحياة.
أيها الأجيال القادمة، احفظوا اسم هذا المجاهد، وانحتوه في ذاكرتكم. لأنه لم يكن مجرد إنسان، بل كان رسالة: أن الحزن العظيم يلد عظمةً أعظم، وأن المقاومة هي السبيل الوحيد لأن تبقى فلسطين حيّة.
هذه ليست مجرد قصة، إنها نداءٌ إلى الأرواح التي تؤمن أن الموت في سبيل الحرية حياةٌ أبدية.