ونحن نحتفل باليوم العالمي للغتنا العربية
فيصل تايه
18-12-2024 08:35 PM
يصادف اليوم الاربعاء الثامن عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر؛ الذكرى الواحدة والخمسين لليوم العالمي للغة العربية ، وهو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام "١٩٧٣" لإعلان اللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية السادسة للأمم المتحدة إلى جانب لغات المنظومة الأممية المعتمدة الإنجليزية والصينية والإسبانية والفرنسية والروسية ، حيث لم يكن اختيار هذا اليوم وتخصيصه للاحتفال العالمي باللغة العربية مصادفة ، بل لأن اللغة العربية تُعدّ ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية ، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم ، كما وأن اللغة العربية أبدعت بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصحى والعامية ، ومختلف فنونها النثرية والشعرية ، وبأعمال رائعة تأسر القلوب في مجالات متنوعة كالهندسة والشعر والفلسفة ، وغيرها من العلوم والمعارف.
نسخة هذا العام "٢٠٢٤" من اليوم العالمي للغة العربية؛ تسلط الضوء على قلة المحتوى الرقمي المتاح على شبكة الإنترنت باللغة العربية، وسبل سد الفجوة الرقمية عن طريق الذكاء الاصطناعي ، حيث تتردد عباراتٌ إبداعية عديدة عن اللغة العربية كل عام، لذلك تم تحديد شعار اليوم العالمي للغة العربية هذا العام بالتالي: “شجعوا الابتكار وحافظوا على الثقافة وارسموا ملامح العصر الرقمي”.
ان اللغة العربية تُعد لغة عالمية ذات أهمية ثقافية جمّة، إذ يبلغ عدد الناطقين بها ما يربو عن ٤٥٠ مليون شخص وهي تتمتع بصفة لغة رسمية في حوالي ٢٥ دولة. ومع ذلك، فإن المحتوى المتاح على شبكة الإنترنت باللغة العربية لا يتجاوز نسبة ٣%، مما يحدّ من إمكانية انتفاع ملايين الأشخاص به.
"اليونسكو" تقيم فعالية بهذه المناسبة تجمع فيها صفوة العلماء والخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي ورواد الثقافة بغرض استكشاف سُبل سد هذه الفجوة الرقمية عن طريق الذكاء الاصطناعي، وتعزيز حضور اللغة العربية على شبكة الإنترنت، ودعم الابتكار وتشجيع الحفاظ على التراث ، وستُستهَل الفعالية، هذا العام، بكلمات افتتاحية يُلقيها متحدثون بارزون، تليها جلسات تتمحور حول مواضيع الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي العربي، والحفاظ على الثقافة واللغة، والتمكين الرقمي. وسيكون مسك الختام عرض للخط المضيء يأسر الأنظار.
اننا اليوم ونحن نحتفل بهذه المناسبة نأمل جميعاً؛ ومعنا كل محب للغة العربية أن يكون هذا اليوم حافزاً لأبناء هذه الأمة للعناية بلغتهم ونشر جماليتها والاقتراب مجدداً من تراثها العظيم ، فلغتنا العربية لغة عميقة الجذور ، وضاربة في التاريخ القديم ، وهي أُم اللغات السامية قاطبة ، لذلك فما زالت أصول العربية الفصحى عصية على عتاة الباحثين ، مستشرقين وعرباً ومسلمين ، لسعة مفرداتها وغزارتها، ولهذا تستحق لغتنا العربية أن يحتفل المبدعون وعشاق اللغة العربية بها ، هذه اللغة التي بالرغم مما تعانيه ما تزال قادرة على التعبير عن الحزن والخوف والأمل .
ولنا ونحن نحتفل بهذه المناسبة المجيدة أن نتذكر أن اللغة العربية بعد أن تمكنت من أن تكون وسيلة تواصل روحي بين السماء والأرض؛ قد نجحت إلى حد الانبهار في أن تواصل الصعود، وتقدم روائع الفكر، وفرائد الإبداع، وأن تكون الناطق الرسمي والشعبي، ولسان الحضارة العربية التي نقلت البشرية –وليس العرب وحدهم- من حال إلى حال ، وفتحت الأبواب مشرعة في وجه التطور العلمي والفكري والأدبي، وهي وإن كانت الآن ما تزال تحظى بتقدير غير محدود من خلال كونها لغة القرآن الكريم ووسيلة التعبير عن الشعائر الدينية إلاّ أنها تواجه إهمالاً شديداً من أبنائها وحرباً ضاربة من أعدائها، وفي طليعتهم سماسرة العولمة الذين يسيرون فوق الأديان واللغات ويجترحون كل المحرمات المعنوية والمادية.
ان من يمعن النظر في أوضاع اللغة العربية وما آلت اليه سيصاب بالذهول وفقدان الثقة في قدرة هذه الأمة على النهوض من كبوتها الطويلة شبراً واحداً ، وأنه سيدرك أن الضعف السياسي والاقتصادي ماهو إلاّ التعبير المادي عن الضعف الذي حل باللغة العربية ، ومن يراجع التاريخ ويدرس أسباب سقوط الحضارة العربية سيدرك أن سقوطها كان مسبوقاً بسقوط اللغة بعد أن سيطر على الحكم في بغداد وغيرها من العواصم العربية أقوام لا تربطهم بهذه اللغة رابطة ولم يكن أحد منهم معنياً بمصيرها ، وسيكون من الصعب على العرب اليوم أن يتقدموا خطوة واحدة في ميدان التطور قبل أن تستعيد لغتهم عافيتها ومكانتها، وقبل أن يشعر الشباب من أبناء هذه الأمة وهم يبحثون عن عمل في أية مؤسسة عربية أنهم ليسوا بحاجة إلى لغة أجنبية تكون جوازاً لدخولهم إلى تلك المؤسسة.
إن التوسع الكبير الذي شهدته لغتنا العربية؛ عراقة وتأليفاً وتصنيفاً وأدباً وشعراً ، تذكرنا ونحن نستجدي بصيصاً من ضوء مدنية الغرب ، فهؤلاء " الغرب " كانوا في وقت ما في وضع أسوأ من وضعنا الراهن ، وأنهم أفادوا كثيراً من الحضارة العربية ، حيث كانت اللغة العربية هي اللغة الثانية لعلمائهم ومفكريهم إن لم تكن هي اللغة الأولى ، وأن الفرق بيننا وبينهم أنهم أخذوا جوهر الحضارة العربية ولم يكتفوا بما نصنع نحن من الأخذ بالقشور .
انني وانا اتحدث عن لغتنا العربية ليعتريني في هذا السياق شعور حاد بخجل مرير تجاه أوضاعنا الراهنة وما تستدعيه من إحساس بالإحباط والحسرة ، فلم يقتصر دور العربية على إنتاج الأدب والتاريخ وكتب العلوم التي بدأت بالازدهار في بغداد والأندلس لاحقاً ، بل كان للعربية دور الوسيط الحافظ والضامن للفلسفات والعلوم الرياضية والفلكية القديمة، وهو ما أقرت الأمم المتحدة به، فالعربية ساعدت في نقل العلوم والمعارف والفلسفات اليونانية والرومانية إلى القارة الأوروبية في عصر النهضة ، وهو أمر صعب المنال على أي لغة لتتنكّب هذا العبء الثقافي العالمي الهائل، وتكون فيه صلة الوصل والناقل الأمين، من حضارة إلى حضارة، كانت العربية الحضارة التي تتوسطهما، تاريخيا وثقافيا وأدبيا.
بقي ان أقول :
إِنَّ الَّـذي مَلَأَ اللّـغاتِ مَحـاسِناً.. جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضّادِ"..