رفع الحد الأدنى للأجور .. ضرورة وطنية لتحقيق العدالة
عيسى حداد
18-12-2024 08:59 AM
تعمل وزارة العمل، بقيادة وزير العمل د. خالد البكّار، على تعزيز العدالة الاجتماعية وتحسين ظروف العمال من خلال السعي لرفع الحد الأدنى للأجور بعد عدة اجتماعات بين لجنة ثلاثية تضُم (وزارة العمل، النقابات العمالية، أصحاب العمل). تأتي هذه الجهود استجابة للتحديات الاقتصادية المتزايدة وارتفاع تكاليف المعيشة، حيث تسعى الوزارة لضمان حياة كريمة للعاملين في مختلف القطاعات. وتشمل هذه الجهود إجراء مشاورات مُستمرة مع الشركاء الاجتماعيين وأصحاب العمل لتحقيق توازن عادل يحمي حقوق العمال ويعزز استقرار سوق العمل، مما يسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
رفع الحد الأدنى للأجور ليس مُجرّد مطلب عمالي، بل ضرورة وطنية لتعزيز العدالة الاجتماعية وتقليص فجوة الدخل بشكل تدريجي. وفقًا لإحصاءات محلية حديثة، فإن نسبة كبيرة من العاملين يُعانون من صعوبة تلبية احتياجاتهم الأساسية مع الارتفاع المتزايد في تكاليف المعيشة. ففي ظل حد أدنى للأجور يبلغ حاليًا (260 دينار أردني)، فإن العديد من الأسر تجد نفسها تحت خط الفقر البالغ (840 دينار)، مما يؤثر بشكل سلبي على الاستقرار الاجتماعي. تجارب دولية تظهر أن رفع الحد الأدنى للأجور يسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال زيادة القوة الشرائية للعاملين. على سبيل المثال، تجربة ألمانيا في رفع الحد الأدنى للأجور عام 2015 أدت إلى زيادة الاستهلاك المحلي وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي دون الإضرار بسوق العمل.
رغم الفوائد الاجتماعية والاقتصادية لهذه الخطوة، فإن تنفيذها يتطلب دراسة دقيقة لتجنب آثار جانبية سلبية. فقد يواجه القطاع الخاص، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، صعوبات مالية نتيجة التكاليف الإضافية. كما قد يؤدي هذا الإجراء، إذا لم يتم تخطيطه بعناية، إلى ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار، وربما يؤدي إلى تقليص العمالة في بعض القطاعات، مما يرفع نسب البطالة.
ولضمان نجاح هذه المبادرة التي أطلقها وزير العمل وتحقيق توازن بين مصلحة العاملين وأصحاب العمل، يُمكن تبنّي حلول عملية وفعالة. من خلال إنشاء صندوق دعم وطني يُمكن أن يكون وسيلة محورية في هذا السياق، بحيث يتم تمويله من خلال رسوم رمزية تُفرض على الشركات الكبرى ذات الأرباح المرتفعة، وإعادة توجيه جزء من الضرائب المُحصّلة من القطاعات المزدهرة، مثل التكنولوجيا والاتصالات، بالإضافة إلى تخصيص نسبة صغيرة من المساعدات أو القروض الدولية الموجهة لدعم التنمية الاجتماعية. هذا الصندوق يُمكن أن يُقدم دعمًا ماليًا مباشرًا للشركات الصغيرة والمتوسطة، ويُستخدم لتمويل برامج تدريبية لتطوير مهارات العاملين، مما يرفع إنتاجيتهم ويُخفّف الأعباء المالية على الشركات. ولضمان الشفافية، يجب إدارة الصندوق من قِبَل لجنة مستقلة تضم ممثلين عن الحكومة، القطاع الخاص، والنقابات العمالية، مع تقديم تقارير دورية حول أدائه.
إصلاح النظام الضريبي يُعد أحد الأدوات الهامة التي يُمكن استخدامها لدعم هذه المُبادرة. يمكن تحقيق ذلك من خلال فرض ضرائب تصاعدية على الشركات الكبرى التي تحقق أرباحًا سنوية مرتفعة، مع خفض الضرائب على الشركات الصغيرة لتخفيف العبء المالي عنها وتحفيز نموها. كما يمكن منح إعفاءات ضريبية للشركات التي تستثمر في تطوير كفاءة الإنتاج أو تحسين مهارات العاملين، وتخفيض فاتورة الطاقة التي هي أهم المعضلات الي تواجه الشركات خاصة الصناعية منها. ما يُعزّز الإنتاجية ويُساعد على استدامة الزيادة في الأجور دون الإضرار بالاقتصاد، وإذا ما تم تنفيذ هذه المقترحات، ليس فقط سيتم رفع الحد الأدنى للأجور، بل سيكون هناك فرصة حقيقية لخلق المزيد من فُرص العمل الجديدة للشباب الأردني العاطلين عن العمل.
تطبيق زيادة الحد الأدنى للأجور بشكل تدريجي يُعد نهجًا منطقيًا للتخفيف من أي تأثيرات سلبية مفاجئة. يمكن تقسيم هذه الزيادة على مراحل تمتد على مدى عام إلى ثلاثة أعوام، مع مراجعة أثر كل مرحلة بشكل دوري لضمان تحقيق التوازن المطلوب. إلى جانب ذلك، يجب تشجيع الشركات على الاستثمار في التكنولوجيا والتدريب لزيادة الإنتاجية، بما يعوّض التكاليف الإضافية المرتبطة بزيادة الأجور.
تخيل سوق عمل مستقرًا يتمتع فيه العاملون بقدرة شرائية أعلى، مما يسهم في تنشيط الاقتصاد المحلي وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. مع رفع الحد الأدنى للأجور وتوفير الدعم اللازم للشركات، سيشعر المواطنون بزيادة ملموسة في مستوى معيشتهم، بدءًا من تلبية احتياجاتهم الأساسية وصولًا إلى تحقيق طموحاتهم. هذه الخطوة ستؤدي إلى تقليص فجوة الدخل، وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية، وتعزيز ثقة العاملين والشركات في السياسات الحكومية، ما ينعكس إيجابيًا على مستقبل الوطن.
إن رفع الحد الأدنى للأجور ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، لكنها تتطلب تخطيطًا شاملًا ومدروسًا لضمان تحقيق توازن بين مصالح الجميع. من خلال إنشاء صندوق دعم وطني، وتنفيذ إصلاحات ضريبية، وتحفيز الإنتاجية، يُمكن تحقيق الأهداف المرجوة دون تحميل أي طرف أعباء تفوق قدراته. هذا النهج المتكامل سيؤدي إلى اقتصاد أقوى، مجتمع أكثر عدالة، ومستقبلٍ مُشرق لكلِّ مواطنٍ في الوطن. بخطواتٍ مدروسة ومتوازنة، يمكن أن تتحول هذه المبادرة إلى نقطة تحول نحو اقتصاد مُستدام ومجتمعٍ أكثر عدالة، حيث يعيش الجميع بكرامة ويُساهمون في بناء مستقبلٍ أفضل.