النمري يكتب: القطبة المخفية في احداث سورية
جميل النمري
15-12-2024 01:53 PM
شيئا فشيئا تنجلي الغاز ما حدث في سوريا وليس ذلك من ركام القصص والتحليلات التي تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي أو المختصين بإبهار الجمهور بمعلوماتهم التي لا سند لها بل من القليل المعلن في وسائل الاعلام الرصينة والتصريحات المباشرة للمسؤولين من مختلف الأطراف.
أولا لقد تأكد تخلي روسيا وايران عن نظام الأسد بتصريحات من الطرفين. تصريحات ارادت ضمنا تبرير الموقف بالنحي باللائمة على النظام السوري نفسه. فأيران قالت انها كان لديها معلومات عن تحركات المعارضة منذ شهور وكانت تحذر النظام لكنه لم يفعل شيئا وانهم كانوا محبطين بسبب ذلك. وروسيا قالت انها نفاجأت بإستنكاف الجيش السوري عن القتال وقالت ليس واجبنا ان نقاتل عنهم.
ماذا يعني هذا؟! يعني ان العلاقات مع الحليفين لم تكن على ما يرام وحاجة الدولتان للتبرير تخفي أزمة وانعدام ثقة بدأتا تتطوران منذ زمن. بالنسبة لأيران فقد كانت تعرف ان الدور عليها في سوريا بعد لبنان وليست مستعدة لمواجهة كهذه. والقوات والميليشيات التابعة لها اذا ظهرت لتحارب مع الأسد فسوف تمحقها اسرائيل ولن تستطيع ايران الردّ. ولذلك فإن ما قالت انه تنبيها للأسد للتحضير للمواجهة كانت تقصد بأن عليه الاعتماد على نفسه. وهي كانت ترى أن الأسد تهيأ لبيع حزب الله وقام باغلاق مراكز له وقد يتهيأ لبيع ايران نفسها لحماية نفسه وأن روسيا قد لا تكون بعيدة عن هذا التوجه فهي تتحضر لاستقبال مرحلة ترامب الذي سينهي الصراع مع روسيا في اوكرانيا ويركز على مواجهة ايران. وبالطبع لن تتطوع روسيا لمواجهة ترامب في سوريا دفاعا عن ايران.
ومعروف ان التنافس الروسي الأيراني على النفوذ في سوريا اقدم من ذلك. ولا ننسى ان الأسد خذل روسيا في كل مسار المفاوضات الذي رعته بالشراكة مع تركيا للوصول الى حل سياسي مع المعارضة وتطبيق القرار 2254 واخذته العزة بإثم الانتصارات التي ما كانت تتحقق دون التدخل الروسي الكاسح ولم يراع مصالح روسيا مع تركيا لدفع الحلّ قدما وهو الحلّ الذي يستثني ايران ويكون على حسابها.
ويمكن ان نخمن ان الأسد انتهى بأن لا يرضي روسيا ولا ايران وربما توزع ولاء رجاله بين الطرفين الى جانب خلافات عميقة حول السياسة التي ينبغي اتباعها بعد الضربات الساحقة لحزب الله في لبنان وما لحق ايضا بإيران ولا بدّ أن القيادة وهي في ذروة ارتباكها وخلافاتها دوهمت بالهجوم من الشمال.
يبقى السؤال الكبير ما الذي كان يجرى في اروقة القيادة السورية في هذه الأيام الأخيرة ؟! هناك توجد القطبة المخفية التي تفسر ما حدث. ولعل الأحداث في اروقة القيادة كانت تتدحرج كل يوم بصورة اكثر درامية وصلت ذروة أولى بإخلاء حمص وذروتها الثانية بإخلاء دمشق. اذ ان كلا المحطتين فاجأتا العالم بما في ذلك تركيا والمعارضة بما في ذلك القوات المتقدمة من حماة وبإعتراف الأطراف نفسها.
فلا يمكن تخيل تشكيلات ضخمة عسكرية وأمنية تفوق عدّة وعددا بأضعاف المرات المهاجمين تخلي مواقعها هكذا. وهي خاضت اشتباكات محدودة في حلب وحماة ثم اخلت حمص دون قتال وكان يفترض ان تقيم خط دفاع صلب يجمع القوات هناك. ثم أخلت دمشق حتى قبل وصول المهاجمين الىها.
لا بدّ ان الوضع في القيادة كانت مضطربا للغاية عندما بدأ الهجوم على حلب ولا بد انه شهد تطورات دراماتيكية عند محطة حمص ولا بدّ انه كان مشلولا ومنهارا قبل وصول المعارضة الى دمشق. واذا كانت الخلافات تعصف بالقيادة قبل بدء الهجوم فلا بدّ انها سخنت بشدّة مع بدء الهجوم الذي لم تكن مهيأة بأي خطة له وهو ما شلّ القرار وسط تجاذبات بين مراكز القوى المختلفة. وهذا الشلل سيكون اكيدا اذا كان مركز الخلاف هو بين الشقيقين بشار وماهر كما سيثبت لاحقا. فقد غادر الرئيس بشار سرا دون ان يبلغ شقيقه ونشرت زوجة ماهر تعليقا مباشرا على هرب بشار الذي "باع العائلة والوطن".
ليس غريبا ان الخلاف القديم بين الأخوين تفاقم حول السياسة التي ينبغي اتباعها ولا بدّ ان الرئيس عانى من سطوة اخيه وربما صدرت أوامر متضاربة من كليهما وقد يكون احدهما حاول "تحييد الآخر" وهذا بعض ما يجب ان نعرفه في قادم الأيام. وربما انتهى الأمر ان القيادات الأولى العسكرية والأمنية لم تعد تعرف أي قرار تتحمل مسؤوليته مع النزاع في المركز وتفكر اكثر في مصيرها الشخصي مع انهيار الثقة وربما ترك للقاده في الميدان ان يتصرفوا. ولعل كل واحد اقتدى بمن قبله في إخلاء الميدان. وقد قيل عن اتصالات وتفاهمات على الإخلاء حدثت مقابل رشوتهم و/ أو ضمان أمنهم وحسب ما نقل عن الأسد فهو اجاب الروس مستغربا ما تفعله قواته.
ولعله شعرانه يفقد سلطته على مفاصل الجيش والأجهزة الأمنية و يفقد الثقة بمن حوله ويخاف على مصيره الشخصي، ويؤكد ذلك هربه دون تنسيق ودون علم بل بمخادعة كل من حوله. وهذا يقول كل شيء عن الحال الذي وصلت اليه الدائرة القيادية الأولى ويفسر سلوك مفاصل القيادة في الجيش والأجهزة وهي ترى انهيار مركز النظام ولم يعد لديها سبب أو مصلحة غير ان تنجوا بنفسها وتوجه للإخلاء من هم تحتها. ولا بدّ ان الروس بدأوا على الفور تفاهمات مع السلطة الجديدة وهم يشرفون على ترحيل الأسد ووجدوا براغماتية عالية منهم وصلت حد ضمان انسحاب قواتهم وبقاء القاعدتين الجوية والبحرية
قد لا يمر وقت طويل قبل ان تتكشف تفاصيل الرواية لما حدث في قمة هرم السلطة أو ما سميناه القطبة المخفية فهناك يوجد تفسير التسارع العجيب لإنهيار النظام والتفسير لسقوط دمشق دون طلقة واحدة وتفاجؤ جميع العواصم بهذا الانهيار بما في ذلك حلفاء دمشق. ويبقى ان نقول ان مثل هذا الانهيارهو من سمات الأنظمة الدكتاتورية فالجيش والاجهزة والمؤسسات والسلطة المرعبة المبثوثة من رأس الهرم حتى القاعدة تتداعى كلها مثل بناء من الكرتون اذا انفكت العقدة التي تمسكها من فوق.