منصور يكتب: ليس دفاعاً عن مشروع الموازنة
يوسف منصور
12-12-2024 04:56 PM
جاء مشروع قانون الموازنة العامة 2025 هذه السنة مختلفاً عن مشروع 2024، حيث يركز المشروع الحالي على مواصلة تنفيذ والاسراع في إنجاز برامج ومشاريع رؤية التحديث الاقتصادي والإصلاحات الهيكلية لتحقيق نمو شامل ومستدام يولد فرص العمل ويقلص معدلات البطالة ويحسن المستوى المعيشي للأردنيين.
فالتركيز في هذه الموازنة هو على تحفيز وتنمية الاقتصاد، وهو الامر الذي لم يلقى من بعض الحكومات السابقة غير الكلام الخطابي التسويفي غير المثمر، الذي سرعان ما يتلاشى مع بزوغ هاجس عجز الموازنة وازدياد وتيرة الدين العام وتحديات صعوبة تخفيض نفقات الأجور والرواتب والتقاعد وخدمة الدين. لتغدو الموازنات المتوارثة غير مرنةٍ، مما يتسبب بعقم السياسة المالية لتصبح أداة جوفاء لا يمكن من خلالها الحديث عن الحوار الاقتصادي الجوهري الواجب، وهو كيف نحقق النمو والتنمية؟
لذلك، فان الإشكالية الاقتصادية الكبرى، ليست عجز الموازنة أو حجم الدين كما سأشرح لاحقاً، بل هي خلق معدلات النمو المطلوبة حسب رؤية التحديث الاقتصادي وخلق الوظائف وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين كما ورد في الرؤية وأيضاً في خطاب ومشروع الموازنة. فالإيرادات وكما نبهت رؤية التحديث وقبل ذلك (منذ عشرين عاماً تقريباً) الأجندة الوطنية الى ان الإيرادات لا تغطي النفقات مما يخلق ديمومة لعجز الموازنة ويقلص مساحة الإنجاز والتطوير، وبالتالي التنمية الاقتصادية المرجوة وفرص الأجيال.
وهنالك من ينتقد حجم المخصصات لبعض المشاريع، مثل تخصيص 50 مليون دينار من أجل مشروع ناقل البحرين مثلاً رغم أن المشروع يحتاج الى المليارات، ولكن مثل هذا النقد أغفل أن الاستثمار اللازم، وهو استثمار ضخم، يتوزع على عدة سنوات ولا يتواجد أو ينفق كله في السنة الأولى، بل على مدى سنوات طويلة، كما أن المبلغ المرصود في الموازنة مخصص لصياغة البيئات التنظيمية والتشريعية والاستشارية الفنية اللازمة لبدء هذا المشروع، والمخطط له من البداية أن يتم من خلال شراكة بين القطاع العام والخاص فيموّل الجزء الأكبر منه القطاع الخاص.
كما أن هناك من انتقد ارتفاع الإنفاق العام بنسبة 5.7% في عام 2025 مقارنة مع نسبة ارتفاع 7.2% من العام 2024، على أنه تخفيض غير كاف. فبالإضافة لصعوبة تخفيض الإنفاق كما ذكرت سابقاً، أغفل هؤلاء بأن ينظروا الى الأمر من الناحية الاقتصادية. لقد استعرضوا الأرقام من منظور المحاسب وليس الاقتصادي، فتجاهلوا الدورة الاقتصادية والفكر الاقتصادي. فحسب جميع المدارس والممارسات المثلى في حوكمة الاقتصاد لا يجوز تخفيض الإنفاق في هذه الفترة التي يعاني فيها من معدلات نمو منخفضة، لأن ذلك يضر بالاقتصاد وبغض النظر عن كفاءة الانفاق أو عدمه، فكل مدارس الفكر الاقتصادي لا تنصح بأن يتماشى الإنفاق الحكومي مع الدورة الاقتصادية (أي أن يزداد حجم الإنفاق العام حين يتحسن الاقتصاد فيتسبب بالغلاء، وينقص الإنفاق حين يتراجع الاقتصاد فيتعمق مستوى التراجع في النشاط الاقتصادي). المطلوب الآن أن يعاكس الإنفاق الحكومي الدورة الاقتصادية ليزداد الطلب الكلي فترتفع وتيرة العرض لتشبع الطلب وهكذا ينمو الاقتصاد.
كما لا يزال بعض المحللون أو "الخبراء" ينظرون الى حجم الإنفاق ونسبته المئوية الى الناتج المحلي الإجمالي ويبتعدون عن نوعية الإنفاق وهي الأهم. فالإنفاق يجب أن يطور الابتكار في البلد وينميه لكي تزداد الإنتاجية والإنتاج وترتفع معدلات النمو بشكل مستمر وعلى مدى فترات طويلة لتتحقق التنمية في البلد وتنخفض نسب النمو الى الناتج المحلي الإجمالي.
وبالتركيز على العجز، مع العلم بصعوبة تقليل الإنفاق، فكأن بعض المحللين يطالبون الحكومة بزيادة الضرائب والرسوم وهي مطالبة أيضاً منافية لمدارس الفكر الاقتصادي والتي تنص على زيادة الدعم وتخفيض الضرائب حين تكون معدلات النمو الاقتصادي منخفضة.
يجب أن نزيد من المديونية هذا العام للإنفاق على المشاريع الكبرى وتقديم مشاريع جديدة من خلال شراكات بين القطاع العام والخاص المحلي والأجنبي شريطة أن تقدم هذه المشاريع زيادة في الابتكار والإنتاجية. نعم، يجب أن نزيد من المديونية والعجز، لكي ننمي الاقتصاد من خلال مشاريع كبرى وتسريع تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي.
فتنمية الاقتصاد عبر دعم الحكومات يعتبر استراتيجية أساسية لتحقيق النمو المستدام، وهناك تجارب ناجحة حول العالم يمكن الاستفادة منها، مثل تجربة سنغافورة حيث دعمت الحكومة السنغافورية الاقتصاد من خلال الاستثمار في البنية التحتية الذكية وتقديم حوافز للابتكار، وأنشأت موانئ عالمية المستوى، وعززت نظامًا تعليميًا يدعم ريادة الأعمال، مما جعلها اقتصاداً عالميًا جاذبًا للاستثمارات الأجنبية ومركزا لإطلاق شركات تكنولوجية رائدة. وألمانيا حيث لعبت الحكومة الألمانية دورًا بارزًا في تنمية الاقتصاد عبر برامج تمويل وتدريب للشركات الصغيرة والمتوسطة، وقدمت قروض ميسرة للشركات لتساهم في تحسين الإنتاجية والابتكار. ورواندا مؤخرًا التي تبنت رؤية اقتصادية تعتمد على التكنولوجيا مثل برامج الحكومة الإلكترونية، بالإضافة إلى دعم الزراعة الذكية، فنجحت الحكومة في تقليل الفقر بشكل كبير وزيادة الناتج المحلي الإجمالي عبر تحسين الإدارة العامة والاستثمار في رأس المال البشري. والإمارات العربية المتحدة التي استثمرت في القطاعات غير النفطية مثل السياحة والخدمات اللوجستية كمبادرة إكسبو دبي ساعدت في تعزيز مكانة الإمارات كمركز تجاري عالمي.
إن النهج الذي اعتمدناه في السابق وهو الاستدانة لدفع الرواتب والأجور والتقاعد وخدمة الدين يؤدي الى مواصلة النمو في حجم الدين دون تنمية الاقتصاد، وهو النهج الخاطئ. كما أن الحوار الذي يهيمن عليه عجز الموازنة وحكم المديونية خطاب يخلو من الفكر الاقتصادي كلياً، كما أنه قادنا الى العجز الحالي الذي ينتقده البعض حاليًا وحوار العجز والمديونية. بالخلاصة، فإن توجه الموازنة الحالية والعقلية التنموية التي تقودها وتركز على تحفيز الاقتصاد وتعزيز منعة الاقتصاد الوطني، وتعزيز استقراره، وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام، والالتزام بمواصلة تنفيذ السياسات والإصلاحات الهيكلية والإجراءات الهادفة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي واستدامة المالية العامة هو المطلوب.