إصلاح النظام المؤسسي قبل إصلاح الأفراد
صالح سليم الحموري
12-12-2024 12:22 PM
تعد المؤسسات اليوم ركيزة أساسية للتطور والابتكار في المجتمعات. ومع ذلك، فإننا عندما نتأمل في أداء العديد من المنظمات، نجد فجوة واضحة بين قدرات الأفراد العاملين فيها وإمكانات الأنظمة المؤسسية التي تحيط بهم. البشر بطبيعتهم مرنون، مبدعون، ومتحمسون، لكن المؤسسات كثيرًا ما تُظهر صعوبة في التكيف مع التغيرات، قصورًا في الابتكار، وبرودًا في إشعال الحماسة لدى العاملين.
يتمتع الأفراد بقدرة فطرية على التكيف مع التحديات المحيطة، حيث يمكنهم ابتكار حلول جديدة للتعامل مع الظروف المتغيرة. لكن المؤسسات، مهما كانت ضخمة ومجهزة، غالبًا ما تُظهر جمودًا في أنظمتها الإدارية وتباطؤًا في استجابتها للتغيير. هذا الجمود لا يعكس افتقار المؤسسات إلى الموارد، بل يُبرز عيوبًا في الهياكل المؤسسية التي يمكن أن تُحبط الابتكار وتُقيد الإبداع.
كما قال الكاتب الشهير جاري هامل "المؤسسات التي لا تتغير بنفس سرعة العالم الخارجي محكوم عليها بالفناء." هذه العبارة تسلط الضوء على جوهر المشكلة، حيث إن المؤسسات التي تفشل في مواكبة التغيرات تفقد القدرة على المنافسة والبقاء.
إن الحماسة في بيئة العمل تبدأ من الأفراد، لكنها تتلاشى عندما لا يجد الموظفون أنظمة تشجعهم على التعبير عن شغفهم وإطلاق أفكارهم. المنظمات التي تفتقر إلى الديناميكية والمرونة قد تُحول العاملين إلى آلات أداء، ما يفقد العمل جوهره الإنساني والإبداعي.
الخطوة الأولى نحو إصلاح المؤسسات تبدأ من الأنظمة ذاتها. لا يمكننا أن نتوقع من الأفراد تقديم أفضل ما لديهم داخل بيئة عمل تعيق قدراتهم أو تقيد حريتهم في التفكير. يجب أن تتحول المنظمات إلى منصات تدعم الابتكار، حيث يُتاح للعاملين التعبير عن إمكاناتهم الكاملة. وكما قال سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم "وظيفتنا في المؤسسات أن نُزيل العوائق أمام المبدعين، وأن نمنحهم البيئة التي تجعلهم أكثر إبداعاً وإلهاماً."
ركائز إصلاح النظام المؤسسي تتطلب التركيز على عدد من المبادئ الأساسية. أولها هو "استشراف المستقبل" وإعادة تصميم الأنظمة لتكون أكثر "رشاقة ومرونة" وقدرة على التكيف مع التغيرات المستمرة. حيث أن المؤسسات الرشيقة هي التي لا تكتفي بمواكبة الحاضر، بل تتطلع إلى المستقبل وتُجهز له من اليوم.
ثانيًا، يجب تعزيز "الابتكار بشقيه التحسيني والجذري". الابتكار التحسيني يُحدث تغييرات صغيرة ومتواصلة، بينما الابتكار الجذري يعيد تعريف العمليات والخدمات بطريقة جذرية. والهياكل التنظيمية يجب أن تكون داعمة للأفكار الجديدة وتشجع على اقتراحها دون الخوف من الفشل.
ثالثًا، لا يمكن تحقيق أي تقدم دون "تحفيز الموظفين" من خلال خلق بيئة عمل إيجابية تُشعر الأفراد بقيمة مساهماتهم. الحماسة لا تُفرض من الخارج، بل تُبنى من الداخل عبر نظام يشجع على العمل الجماعي والتقدير.
رابعًا، "الإدارة التشاركية" هي أساس بناء الثقة وتمكين العاملين. عندما يُشرك الموظفون في اتخاذ القرارات ويُمنحون دورًا فعّالًا في صياغة مستقبل المؤسسة، يصبحون أكثر التزامًا وتحفيزًا.
خامسًا، "التعلم المستمر" هو عماد بناء الكفاءة. لا يمكن للمؤسسات أن تحافظ على تنافسيتها دون الاستثمار في تطوير مهارات موظفيها عبر برامج تدريبية متواصلة تُمكّنهم من مواكبة التطورات المتسارعة.
إصلاح النظام المؤسسي هو المفتاح لتحويل المؤسسات إلى أماكن مذهلة ويكون الابتكار والنمو هو الاساس، بنفس قدر الأفراد الذين يعملون فيها. إن الاعتماد فقط على قدرات الموظفين دون توفير بيئة عمل داعمة يعوق تحقيق الطموحات، حيث أن المؤسسات التي تنجح في خلق التوازن بين كفاءة الأنظمة وتمكين الأفراد ستكون قادرة على تحقيق إنجازات استثنائية في عالم مليء بالتحديات والتغيرات.
إن الطريق إلى "التميز المؤسسي" لا يبدأ بتغيير "الأفراد"، بل "بإصلاح الأنظمة" التي يعملون ضمنها. عندما تُمنح الأنظمة المرونة والكفاءة، وعندما يُتاح للأفراد المساحة للتعبير عن إبداعهم، تصبح المؤسسات ليست فقط قادرة على البقاء، بل أيضًا على "الريادة والإلهام".
* صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للادارة الحكومية