لم تكن هذه الليالي عادية البرودة، ولا ضمن الاحتمال، فالشتاء اقبل فجأة، وبشدة، عاد ونحن آمنين في بيوتنا دافئين منعمين بمختلف أنواع المدافئ وأجود الثياب، لكن الفرحة بقدومه كانت منقوصة، والإحساس ممزوج بالفرح والألم، وتضارب الدعوات والرغبات بداخلنا هو سيد الموقف، اندعو كعادتنا أن ينزل المطر بغزارة و وتتساقط الثلوج، أو لا ندعو تعاطفاً وخوفاً على أهلنا المكلومين في قطاع غزة!
كم كنا ننتظر هذا الفصل البديع بفارغ الصبر، ننتظره بالشهر واليوم والساعة، لكننا اليوم نخجل من البوح بانتظاره، نخجل من أنفسنا ولو حدثناها سراً برجاء قدوم الأمطار والعواصف، فسرعان ما يعلو صوتُ آخر بداخلنا، ماذا عن أهل قطاع غزة؟ ماذا عن مئات آلاف النازحين، القاصرين العاجزين؟! فمنهم المدمرة بيوتهم، ومنهم من يتلحف السماء، ومنهم من يسكن في الخيام، و أيُّ خيام هي!.
يقول أحدهم: حاولت أن أبقى في بيتي قدر المستطاع، حتى جاءت قذيفة وقسمت البيت إلى نصفين، فقدت ثلاثة من أبنائي، فقررت النزوح بما تبقى منهم، جئنا إلى منطقة دير البلح، ولم يكن هناك متسع فيها من كثرة أعداد النازحين، فنصبت خيمتي على الشاطئ، وهي عبارة عن قماش وأكياس طحين، حكتها مع بعضها البعض لأصنع شبه خيمة، لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف! .
ويقول ضاحكاً: الذين يعيشون في خيمة حقيقية، هم البرجوازيون في غزة، ومن يمتلك سقفاً من ( لوح الزينكو) لخيمته حتى وان كان مهترئاً فهذا من المحظوظين! فالخيمة المحكمة صارت حلماً صعب المنال.
حشود من النازحين نراهم كل يوم، يحملون ما يستطيعون حمله، من ملابس وفراش، فارّين بأرواحم من صاروخ أو قنبلة تفتك بهم، لملاقاة البرد والجوع والمرض والقهر والفقد. وكأنهم هاربون من الموت وإليه! .
خيام تعج بالأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، يقطنها أعداد تفوق استيعابها، فما يتسع منها لخمسة أشخاص، يشغلها عشرون !! هذا يئن من مرضه، وذاك من عجزه، وتلك من حسرتها.
بات فصل الشتاء يشكل كابوساً وهاجساً مخيفاً للغزيين العزّل، مأساة تحل بمئات آلاف النازحين، وبرغم معاناة النزوح، لم يسلم أحد، فالباقي في بيته يُقصف، والنازح يُقصف، والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس كذلك، لا مكاناً آمناً فيها.
لم تعد نداءات الاستغاثه تفيد لا لقريب ولا غريب ولا للدفاع المدني أو الهلال الأحمر أو غيره، فالكل في غزة يستغيث، ولا من مُغيث، كل القطاعات استهدُفت، والبنى التحتية دمرت، لا ماء ولا كهرباء ولا شبكة صرف صحي، تفاقمت الأزمات وتضاعفت المعاناة.
ما السبيل؟ وإلى متى؟ .. عجز وصمت بداخلنا، يشوبه القهر ونحن مكتوفي الأيدي لا نقوى على فعل أي شيء، تراجعت نبراتنا وردود أفعالنا، ليس من قبيل التخلي ولا الاعتياد، بل من شدة الضعف والألم النفسي الذي نعيشه كل يوم من هول ما يحدث.
يال َشجاعتكم يا أهل غزة، ويالَ عزيمتكم وصبركم، تصرون على البقاء والعيش وإيجاد البديل - المعدوم- لتستمروا، تدفنون أبناءكم وتعودوا لتكملوا بناء خيمة متهالكة في محاولة جديدة للثبات. تعيشون الموت والحياة في اليوم ألف مرة، ويالَ ضعفنا وقلة حيلتنا تجاهكم، فوالله قد خارت قوانا واستنزفت آمالنا، فبعد أكثر من أربعمائة ليلة دامية، وأكثر من أربعين ألف شهيد و مئات الاف الجرحى والمفقودين، بتنا ننتظر معجزة ربانية تتجلى لتنهي هذه الحرب المأساوية!..
فالأمل مفقود من العباد، لا نملك إلا الدعاء والاستعانة والاستغاثة برب العباد، أن يلطف بكم، ويرحم شهداءكم، ويشفي مرضاكم ويربط على قلوبكم، ويلطف بأهل الخيام الضعفاء، وأن ينزل العاقبة بالمجرمين المحتلين عاجلاً غير آجل.. إنه سميع مجيب الدعاء.