لعل الصورة المهينة التي رحل بها الرئيس السوري الأسبق بعد أن ترك عرينه تثير التساؤلات والحيرة في آن، ليس فقط بسبب تسارع الأحداث ابتداء بسيطرة قوى المعارضة على مدن كبرى كحمص وحماة وحلب ودرعا خلال أيام دون مقاومة تذكر، وإنما بسبب تخلي حلفاؤه عنه وبيعه بثمن بخس بعد أن انتهت مدة صلاحيته، ربما مقابل الحصول على نصيب مفروض في أماكن أخرى.
ودون النظر إلى تأثير ذلك إما إيجاباً أو سلباً على منطقة الشرق الأوسط، والجهة التي تسيطر على مقاليد الأمور في سوريا الآن وجذورها العقائدية والفكرية، وارتباطاتها الإقليمية والدولية المعروفة، وقلة خبرتها في إدارة السياسة المحلية والإقليمية والدولية، فإن رحيل طاغية يشكّل حدثاً مهما ينبغي التوقف عنده، والاستفادة منه، خاصة من جانب طغاة آخرين لا يزالون يعيشون في أوهام الأنظمة الشمولية التي تحتقر حقوق الإنسان، وتغيّب سيادة القانون، وتزدري جهاز القضاء وتعمل على إضعافه، وتسيطر على وسائل الإعلام كافة، وتملك مفاتيح الاقتصاد، وتقيّد الحريات، وتعتقل المواطنين والمواطنات لسنوات وربما لعشرات السنوات دون محاكمات، وتستقوي على مواطنيها دون وجه حق بأجهزتها الأمنية وقوتها العسكرية، وفوق كل ذلك لا تستند إلى أية قاعدة شعبية حقيقية.
إنّ رحيل طاغية بهذا الشكل المهين وانضمامه إلى من سبقوه من الطغاة الآخرين، الذي حكموا أنظمة سادت ثم بادت، يعد حدثاً تاريخياً لا بد من دراسته للاستفادة منه مستقبلاً، إذ ما معنى تخلي الحلفاء الإقليميين والدوليين عنه دون سابق إنذار، وما معنى تخلي الجيش الذي لم يأتمر بأمره عنه، وما معنى تخلي طائفته عنه، وما معنى تخلي الحليف الإقليمي الأقرب عنه. إن ذلك يشي بأن الأنظمة الشمولية إنما تستمد شرعيتها، ووجودها، وبقائها، وقوتها، وجبروتها من دعم الحلفاء، وليس من الدساتير، والقوانين، والأنظمة، ولا من الشعب الذي يعد دستوراً مصدر السلطات. ولعلّ الرغبة في البقاء على سدة الحكم إلى ما لا نهاية، وتوريث الحكم للأبناء، يعد سمة من سمات من القائمين على تلك الأنظمة الجمهورية الاستبدادية، عوضاً عن تحديد مدة الرئاسة بفترتين رئاسيتين كما هو معمول به في معظم الأنظمة الديمقراطية الغربية.
إن الصورة التي رحل بها الرئيس السوري الأسبق تثير الشفقة والحنق في آن، إذ كان من الممكن لو أحسن التصرف أن يسطّر اسمه ناصعاً في صفحات التاريخ، وأن يبقى في بلده وبين أبناء شعبه، عوضاً عن فراره وطلبه اللجوء في دولة أخرى لم تمد له يد العون والمساعدة عند الحاجة بسبب انتهاء مدة صلاحيته، ولحسابات ذات علاقة بالسياسة الدولية. ناهيك عن تعزيز الصورة النمطية التي تشكّلت لدى الرأي العام الغربي حول النهايات الدرامية لبعض أولئك الطغاة المنتشرين في كل من قارتي آسيا وإفريقيا، ما يشمل رؤساء الأنظمة الجمهورية في العالم العربي، بحيث تشكّل تلك النهايات جزءاً لا يتجزأ من مصيرهم المحتوم. وكان حرياً بأولئك الطغاة أن يتعلموا من دروس التاريخ القريب والبعيد الذي يزخر بنهايات مأساوية للمستبدين والدكتاتوريين.
ولعلّ التساؤل الذي يطرح نفسه الآن إنما يتعلق بشكل رئيس بتأثير تلك الأحداث المتسارعة على منطقة الشرق الأوسط والعالم. إن الإجابة عن هذا التساؤل تستدعي منا جميعاً التنبه لحقيقة الجهة أو الجهات التي سيطرت على مقاليد الحكم في سوريا الشقيقة في الوقت الراهن، وارتباطاتها الإقليمية والدولية، ومدى قدرتها على إدارة دفة الحكم باستخدام أساليب ديمقراطية وعصرية، وتجسيد مبدأ العدالة الانتقالية، وتقوية الاقتصاد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة خلال مدة معقولة ما يؤدي إلى مشاركة كافة أبناء وبنات الشعب السوري الشقيق من كافة الطوائف والانتماءات السياسية في تلك العملية الديمقراطية، تمهيداً للعودة الطوعية لأبناء وبنات الشعب السوري من المهجر.