إلى أين ذهب بنا بعض النواب في لغة الخطاب (2)
أ.د. عدنان المساعدة
09-12-2024 09:18 AM
إستكمالا لمقالي السابق بعنوان (لغة الخطاب في كلمات أعضاء مجلس النواب) والذي تناولت فيه الخلل في لغة الخطاب عند بعض أعضاء مجلس النواب (مع الاحترام لشخوصهم) الذين يتحملون جزءا من وزر هذه الأخطاء، وتتحمل منظومتنا التربوية والتعليمية الجزء الأكبر والأهم حيث أعنقد أن مرد تدني مستوى الخطاب اللغوي يعود الى تراجع مستوى التعليم في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية التي لم تراع الإهتمام باللغة العربية الكافي في المناهج التعليمية كما كان سابقا.
وهنا ما أجدرنا أن نعود إلى ثقافتنا الأصيلة الرصينة التي بدأت بكلمة أقرأ بكل ما تحمله من مضمون شمولي، لإن اللغة تشكل الوعاء التعليمي والفكري والثقافي الذي يرفض العبثية والميوعة والاستهتار. ولغتنا التي بدأت بكلمة إقرأ ينبثق عنها القراءة والكتابة والمحادثة وسعة الاطلاع. لذا، فإن مسؤولية ترسيخ القراءة كمفهوم شمولي ليست حصرا بوزارة التربية والتعليم وكليات المجتمع والجامعات وحدها، بل هي أيضا استعداد وتطوير للذات، كما هي مسؤولية كافة المؤسسات ذات العلاقة، لنؤسس لمجتمع قاريء يشمل كافة شرائح المجتمع، لنكون في ذلك قد وضعنا أساس الطريق الصحيح نحو جيل مثقف واع متطور بعقله وفكره علما وثقافة.
وعودا على بدء، فيما يتعلق بالمنظومة التعليمية، فمسؤوليتنا جميعا أن نراقب بعين ناقدة وتشخيص حقيقي أسباب تراجع التعليم، وأشير هنا إلى اهتمام جلالة الملك بمحور التعليم والنهوض به حيث تناولت الورقة النقاشية السابعة محور التعليم، وتضمنت أن التنمية الحقيقية لن تتحقق إلا بإحداث نقلة نوعية في التعليم في كل مراحله دونما تردد أو وجل أو خوف لنضع أردننا والانسان الأردني على خريطة المعرفة العالمية والتأثير والتأثر بها ايجابيا ونوعيا لنترك بصمات واضحة المعالم لأجيال المستقبل الذي هو مستقبل أردننا الغالي.
ولا يفوتني هنا، أن أشير أيضا في هذا الصدد إلى الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية (2016-2025) التي وجه فيها جلالة الملك رسالة إلى دولة الدكتور عبد الله النسور رئيس الوزراء الأسبق بتاريخ 24/3/2015 لتؤطر عمل اقطاعات العاملة في التعليم في كل مراحلة، وقد تم تشكيل لجنة برئاسة معالي وزير التربية والتعليم ووزير البحث العلمي الأسبق الدكتور وجيه عويس بتاريخ 6/4/2015 التي كان من ضمن محاورها ملف التعليم حيث أشارت اللجنة صراحة إلى تراجع في جودة مخرجات التعليم، وأشارت الى مواطن الخلل ووجود بعض الفجوات المتمثلة في عدم استقرار التشريعات، وضرورة مراجعة نتاجات سياسة التعليم الأكاديمي والمهني، وإجتهدت أيضا في وضع أسس عملية لتصحيح مسار التعليم الذي نريد جميعا ومنها جودة المناهج، وتعزيز مكانة المعلم، وجودة التقييم، والحاكمية، ودعم الجامعات، مع ضرورة توجية مسيرة الجامعات كي تخرج من قوالب التعليم الجاهزة والتقليدية والمتكررة الى قوالب جديدة أكثر استيعابا لمتطلبات العصر ورفع سوية التعليم بمخزون معرفي واسع كما ونوعا.
نعم، أن تراكم الأخطاء وعدم معالجتها أدى إلى وجود سلوكيات سلبية لم نعهدها سابقا في مدارسنا وجامعاتنا ومنها العنف الجامعي وظاهرة الإعتداء على المعلمين وأساتذة الجامعات، وعدم إحترام الوقت والإستهتار بالإلتزام بالتعليمات التي تضبط العملية التدريسية برمتها، كما أدى ترحيل الأزمات وعدم مواجهتها إلى جعل الأمور تعقيدا.
واذا كنا نتفق جميعا، أن صياغة مرحلة جديدة من مراحل البناء والتنمية الشاملة والإصلاح يبدأ من التعليم بمختلف مراحله وضمان جودته بما يؤدي في النهاية إلى مخرجات تعليمية متميزة، وأن التعليم النوعي والرصين بمختلف مراحله الذي يوازية منظومة قيمية وأخلاقية هو ركيزة أساسية للنهوض في كافة مرافق الدولة الأردنية التي تنعكس على مفهوم التنمية الشامل، فإن ذلك يتطلب معالجة الاخطاء التي رافقت مسيرة التعليم التي باتت ضرورة ملحة بدون تسويف او تأجيل او مجاملة، لأنه ليس من حق كائن من كان أن يجامل في أمر يتعلق في بناء مستقبل أردننا ووطننا وخصوصا البناء التعليمي.
أضف الى ذلك، فأن مراجعة صياغة الأهداف التعليمية القابلة للتطبيق التي تواكب عصر المعلومات وثورة التكنولوجيا التي تسير بتسارع كبير، والتركيز على عمق الرؤية الاستشرافية المشرقة التي تدرك أهمية الفكر التربوي الرصين والبناء التعليمي القوي أصبح أمرا هاما لوضع جدول زمني لمعالجة هذه الاختلالات وتشخيصها ومعالجتها بشكل جذري، وتراعي مستقبل التنمية، ومواكبة المستجدات التعليمية والتربوية الحديثة، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات في العملية التعليمية، وبناء الإنسان المتطور بعقله وسلوكه وفكره ليكون عنصرا فاعلا في خدمة وطنه، ويسهم إيجابيا في بناء الحضارة الإنسانية، والإنطلاق نحو فضاءات الحرية المسؤولة التي تحمل المعرفة والحكمة ليستمر البناء والإنجاز، وتسهم في إعادة توجيه بوصلة التعليم التي إنحرفت عن مسارها الصحيح بسبب كثرة التنظير الذي لم يرافقه منهجية عمل جادة ومتابعة ومسؤولية للخروج من هذا النفق ليرى تعليمنا النور.
ولا أنسى هنا القول بأن الأستثمار الحقيقي في التعليم لا يقوم على تجارة تحقق الربح المادي السريع على حساب نوعية التعليم وجودة المخرجات، فالإستثمار الحقيقي ودون أدنى شك هو الذي يدفع بعجلة التنمية في جميع مرافق الدولة، ولنأحذ تجارب دول كثيرة أعادت بناء هيكلها التعليمي على أساس متين كاليابان وكوريا وماليزيا وغيرها فنهضت وتقدمت في جميع الميادين.
أضع هذه الرؤية الأكاديمية المتواضعة مجددا أمام دولة رئيس الوزراء ومعالي وزير التربية والتعليم ووزير التعليم العالي والبحث العلمي المحترمين، فهل نبدأ يا دولة الرئيس في مشروع وطني حقيقي قائم على تعليم نوعي يتضمن مدخلات قوية تراعي البعد البنائي للمجتمع الذي يخدم مستقبل وطننا وأبنائنا؟ لأنني أعتقد أن إحداث النقلة النوعية في التعليم ينعكس على مفاصل الحياة في مجتمعنا، وينهض بمكانة الأردن إقليميا ودوليا، كما يؤسس لمرحلة بناء حقيقية لمنظومتنا التعليمية والتربوية لتكون حاضنة وعي وفكر وتقدم ورفعة لغد أردني مشرق بعون الله. فهل نبدأ المشوار؟! وهل نحن فاعلون؟!
• كاتب وأستاذ جامعي حاليا / جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
• عضو مجلس أمناء حاليا
• عميد أكاديمي سابقا في جامعتي العلوم والتكنولوجيا الأردنية وجامعة اليرموك
• رئيس جمعية أعضاء الهيئة التدريسية سابقا