قرن من الزمان عاشتها سوريا تحت الحكم الاسدي , قرن جاء بعد سلسلة انقلابات شهدتها دمشق استقرت بوصول حزب البعث السوري للسلطة , عندها بدأت سوريا تنهض تحت قبضة الرئيس السابق حافظ الاسد , إلى أن جاء عام 1982 , هذا العام الذي كشّر فيه "القائد الخالد " كما كان يسمّيه موالوه عن انيابه برفقه شقيقة رفعت الاسد , فأبيدت حماة عن بكرة ابيها , و بدأت سوريا تكتب صفحات من العنف الغير طبيعي الذي قد يصلّ حد الدهشة .
كان عنوان القيادة في سوريا هو الخوف , بالرغم من بناء سوريا قوية اقتصاديا و متزنة اجتماعيا إلى حدٍّ كبير , لكنّ الشعب السوري كان لعقود يعيش حالة من الخوف الدائم , الخوف من التعبير , الخوف من الكلام , الخوف حتى من الخوف نفسه , لذلك لم تشفع لهذا النظام أي تطورات تحدث , فلطالما تهكّم السوريّون بأنّ للحيطان في سوريا (آذان) , فأكبر مستوى للحرية في سوريا قد يكون أقل مستوى للحرية في بلد مجاور لها كالاردن مثلا !
متى بدأ الانحراف ؟
بدأ خراب سوريا الحقيقي لحظة توريث الرئيس المخلوع بشار الاسد للسلطة , فمن الطبيعي بعد وفاة الرئيس في الدول ذات النظام الجمهوري أن ينتخب الشعب رئيسا , لا أن تتحوّل الدولة الجمهورية لمملكة فقط لنقل السلطة , خصوصا أن الشعب استبشر خيرا برحيل الاسد الاب أن تُطوى صفحة من القمع و الدم , لكن هذه الصفحة تلاشت بقرار طُبخ في ساعات وبنقل سريع للسلطة ظاهره ديموقراطي باطنة استيلاء على السلطة و توريث واضح .
عندما حرق البوعزيزي نفسه في تونس و اشعل بجسده الشوارع العربية بما يسمّى الربيع العربي , كان الاسد يتحضّر لرسم خارطة دموية لسورية , فبطش بالمظاهرات البسيطة التي كان يستطيع احتوائها , بعض من الصبية و كتابات على الحوائط , كانت كفيلة أن يقوم النظام بسحقهم , هنا بدأت الثورة , و بدأت صفحة جديدة يصبح بها السوري لاجئ في وطنه و خارجه , يقبع تحت سلطة الايراني و رغبات الروسي و محاصصات الامريكي و طيران الاسرائيلي و ميليشيات حزب الله , عندها " راحت البلد و ضل الاسد " .
لم يكن الاسد ذكيا في ادارة سوريا طوال سنوات الثورة أو كما كان يسمّيها بالحرب الكونية على سوريا , فعقد من الزمن كان كافيا للتفكير مليّا في بديل له يضمن له انتقالا سلميا للسلطة , بديلا يجعله يتعامل بحرفية و ولاء مع وطنه دون الحاجة للهروب في الخفية , فبشار الذي من الممكن أن فكّر يوما بنقل السلطة لحافظ ابنه تناسى بأنّ فاتورة الدم يجب أن تدفع مهما تأخرت , حتى ملف المهاجرين بات ورقة للضغط لا للمصالحة , فملايين السورية حُكم عليهم بالاقصاء عن وطنهم و عائلاتهم , و لمن صدّقوا الوعود و عادوا...اختفوا في " بيت خالتهم " .
البعض في سوريا و خارجها يحب النظام المعزول تحت قاعدة " شر معروف خير من شر مجهول " و قد تكون الديموقراطية احيانا ليست بخيارٍ جيد كبديل عن الديكتاتورية خصوصا في غياب النظام البديل المتزن , لكن في المحصلة لا يمكن أبدا مقارنة ما سيحدث بما حدث في سوريا طوال نصف قرن , فكل سجن فيها من تدمر لعدرا لصيدنايا قد تكتب فيه الف رواية و قصة و مسلسل , اجرام غير معقول , اساليب تعذيب هستيرية , تنكيل يضرب النفس البشرية السوية عرض الحائط .
الاردن و ملف سوريا ...
بالتأكيد أن ما كسبته الاردن من رحيل الاسد يفوق ما قد تخسره بكثير , فحلم "الشاميران " أي الشام الايرانية قد تلاشى , فبوجود النظام السابق كانت خيوط ايران في الجنوب السوري تقترب نحو الاردن , فهل بزغ نجم صباح على حرس الحدود الشمالية الابطال دون مجابهة لتهريب الكابتاجون ؟
بالاضافة أن الاردن سيستفيد من عودة طوعية للمهجّرين السوريين في الاردن لوطنهم , فالاردن الذي كان خير مضياف و حضن دافئ للسوريين لا شك بأنّه قد عانى و يعاني من تحدّيات لتلك الفاتورة , ستبدد شيئا فشيئا مع العودة الآمنة لهم , إذن هذه الثلاثية الايجابية (ايران – مهجّرين _حدود شمالية ) هي ما قد يجنيه الاردن من فوائد , فأين قد يخسر الاردن ؟
خسارة الاردن في الحقيقة هي ذاتها الخسارة للسوريين , فإن كان البديل عن النظام الاسدي في سوريا ليس بالبديل القوي الذي يحفظ النظام فتصبح المعادلة هي ذاتها فقط بتبديل رأس الهرم و البقاء على الخراب, لذلك من مصلحة عمّان أن تدعم دمشق في بناء سوريا قوية تحفظ النظام و المواثيق الدولية و تصون حقوق دول الجوار و أمنهم .
سوريا و التجربة العراقية
بالرغم من أن توأم حزب البعث الحاكم في سوريا كان في العراق , إلّا أن حافظ الاسد كان من اشد خصوم صدام حسين , فسوريا كانت الدولة العربية الوحيدة التي ناصرت ايران في وجه صدام في الحرب بينهما , إلّا أن الكثيرين يرون في سقوط ديكتاتورية الاسد مشابهة لسقوط ديكتاتورية صدام , لكن من الناحية الفعلية , سوريا لن تدفع الديون لعقود كما فعلت العراق بعد خطأ صدام الكارثي بالتعدي و احتلال الكويت , و لم يتشكل تحالف دولي ضد الاسد كما جرى في بغداد , بل سوريا مقسمّة بين نفوذ عدة دول , يجب أن تعمل المعارضة على تحديد هذه العلاقات و تطويرها لاستثمارات في سبيل اعادة البناء , لذلك فالتشابه ليس بالكبير بين هذه الديكتاتوريات .
سوريا و الانفراج اللبناني
لطالما كان نظام الاسد الوصي المرهق المتحكم في لبنان , فلعقود قبعت بيروت تحت سلطة دمشق عبر رسم القوانين و الانظمة و عزل الرؤساء و اغتيالهم و ترتيب الاوراق حسبما يريد آل الاسد , فكانت حياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري هي الثمن لسحب النفوذ السوري عن بيروت , أما بعد الثورة السورية فعُكست الآية كرد جميل من حسن نصرالله قائد حزب الله لنظام الاسد , فبات الحزب يتحكم في المحافظات التي يحتلّها في سوريا , فانهيار النظام الاسدي اليوم قد يعد انفراجة للبنان في طريقه نحو التعافي .
اليوم هو يوم مفصليّ في تاريخ وطن الياسمين سوريا , فعلى السوريين أن يعبروا العقبات المختلفة , تلك التي رسمها النظام المنتهي و التي فرّقت الاقاليم السورية و المحافظات و نشرت الخوف و الكراهية , عليهم أن يبنوا سوريا موحّدة , سوريا قوية , سوريا لا تحلل الانتقام أو التضييق على الاقليات , سوريا اقرب ما تكون للعلمانية , سوريا لا تعرف المتاجرة بالدين , أن تكون سوريا الزاهية لا سوريستان أو طالبان العربية .