الصندوق الأسود (18) .. "العجلة هي الحالقة"
د. كفاية عبدالله
08-12-2024 01:06 PM
العجلة هي الحالقة لا أقول الحالقة التي تحلق الدين ؛ وإنما تحلق صناعة السياسات العامة ، في سعيها لإصلاح الإدارة العامة وتحسين الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين تحمل بعض الحكومات بين أحشائها ملفات ثقيلة، عليها أن تحدد أولوياتها وترسم ملامح مستقبل مولودها بما يضمن له مستقبل موعود وحياة كريمة على المدى الطويل ؛ ولكن بعد مخاض أليم كانت نتائجه مولود مصاب بتشوهات خلقية نتيجة الولادة المبكرة في غير موعدها، ومرده العجلة لحضور من يحمل اسم أبيه ويقدم البرهان على الحضور والإنجاز ، وإن كانت رحلة حياة القادمة يعتريها الكثير من الصعاب والمشقات.
إنها عملية الاستعجال في "طبخ " السياسات والهرولة لتقديم السياسات إلى مطبخ البرلمان، سياسات بياناتها هزيلة تستند إلى وثائق شحيحة وتحليل خجول محدود الأفق للزمن والمحيط الذي تعمل فيه، في ظل تشاور شكلي مع المعنيين أو تضييق دائرة الجالسين على طاولة الحوار لمن يوافقنا الرأي والاتجاهات، ونبذ المخالف بحملات التشكيك والتهميش، والتنافر بدل التعاون بين إدارات المؤسسات العامة، وازدواجية الأعمال والتكرار غير المبرر للجهود والمخرجات، والعمل وفق "عقلية الصوامع " والجزر المعزولة، وحصر مجالات التشاور على الصياغة التشريعية والعبارات الإملائية ، وطي صفحات تحليل الوثائق الاستراتيجية كأنها مهمات فردية وحصرية لمن يمسك القلم أو يملك السلطة، وعمليات الغرق المتعمد وضخ كميات هائلة من الوثائق والمستندات على طاولة المسؤول ليضيع منه التركيز بين زحمة الأوراق ضيق الأوقات لمراجعتها أو النظر فيها.
أو إسناد المهمة لبعض الفنيين الجديد على صنعته الذي تنقصه المهارات المطلوبة، ويفتقر للخبرة العملية اللازمة للتحليل والتأطير، دون إخضاعه للتدريب أو التأهيل ، وتكليف من أرهقته الأعباء اليومية ويضيق عنده مساحة الوقت للتفكير والتحليل للقيام بمهمة جليلة قوامها تحديد ملامح الطريق للخطوات القادمة للمسير نيابة عن الشعب ولتحقيق طموح الشعوب، مع غياب التقييم والقفز عن تحليل المخاطر وتقييم الأثر والحرمان من التعلم من تمارين المراجعة والتحسين.
لا يمكن أن يحدث كل هذا في غياب عن السياق التنظيمي والثقافة البيروقراطية التي تشيع في العديد المؤسسات التي تتعامل مع الموظف كالآلة البشرية باعتباره مجرد ترس واحد في آلة متحركة باستمرار، يحدد له مسبقا مسار ثابت لا يخطئه، يقوم بمهام لا يمكن له أن تحريك تلك الآلة أو إيقافها من تلقاء نفسه ولاسيما انه لا يملك الصلاحيات الكافية، هو آلة لا يحق له أن يحب أو يكره، مثالية مقيتة مجرد لا تملك لشخصك هوية شخصية تعبر عن رأيك وقناعاتك ، فأنت تلبس قبعة الموظف الحكومي ، لن قبل منك فعل غير رشيد؛ فالموظف الحكومي رجل عقلاني رشيد ولا مكان للعفوية أو لا رسمية في الكلام أو الهندام فأنت تحت الأنظار تحاسب وتساءل.
ما أحوجنا إلى حكومات براغماتية تتحول نحو صناعة السياسات الاستراتيجية تخدم الغايات والمآلات وفق الأولويات الوطنية والأهداف القطاعية توجهها استراتيجي واستشرافي تتطلع إلى الأمام وتركز على النتائج لتحقيق تغييرات واقعية وملموسة، سياسة عابرة للمؤسسات وتتخطى الحدود التنظيمية، سياسات شاملة مترابطة وعادلة تراعي جميع الأطراف ، تعكف على علاج الأسباب من جذورها وتتجاوز الأعراض الآنية، قائمة على الأدلة والحقائق باستخدام التجريب والتعلم من الأخطاء، سياسات قوية متينة تصمد أمام التحديات وتبرهن نجاحها عند الامتحان والتطبيق.
ومفتاح ذلك التوجه نحو السياسات الاستراتيجية ذات الطابع الاستشرافي الطموح وفق الأولويات الوطنية ومركزة نحو النتائج ومحورها المواطن، سياسات مبتكرة ومرنة وخلاقة قائمة على الابتكار وتبني التكنولوجيا ومواكبة المستجدات والتغيرات ، وبناء الشراكات المتينة والتكامل الأدوار بين المسؤولين والفنيين، وسياسات عابرة للحدود التنظيمية بين مؤسسات الحكومة الواحدة، سياسات قوية صامدة أمام التحديات مسلحة بالأدلة والحقائق وإدارة المخاطر، وتتبع النتائج وتقييم الأثر ، ومتابعة ومراجعة وتعلم وتحسين، قيادات مؤمنة بالإصلاح وملتزمة بالتغيير، والتدرج وتجنب الوثبات السريعة فالعجلة هي الحالقة التي تحلق صناعة السياسات الاستراتيجية وتبذر الجهود وتضيع الحقوق.