مسار قصيب والوسقة بوادي عربة
عبدالرحيم العرجان
08-12-2024 12:34 PM
أودية ومعالم يجب أن يبقى تداولها ثابتا بأسمائها الوطنية المتوارثة بلسان الأهل والأجداد، وطريق مرصوف القليل من يعرفه يحمل بعضه حكايات من التاريخ العسكري ما بين مطار غرندل وثغرنا الباسم بالعقبة.
الطريق الإنجليزي..
بعد أن عملنا على تأمين سياراتنا التقينا بدليلنا الحاذق أبو ثائر السعيدين والمعتمد لسياحة المغامرة ليرافقنا بالمسار، وكان طلبنا أن يكون ضمن محيط وادي عربة سيد الجمال ولتحط أقدامنا بأرض أهل العز والنخوة والكرامة لما فيه من تنوع طبيعي وحياة فطرية خالصة.
يعتبر الطريق منطقة مفتوحة ضمن وادي قصيب موسمي الجريان لا تسمع فيه سوى صوت خشخشة مع كل دبة قدم على حجارة مجرى السيل العريض وسرعان ما أوصلتنا للجبال الشرقية بعد عبور طريق مرصوف بحجارة شبة مشذبة بكتفين قد مُدّتا إبان الإنتداب البريطاني للربط ما بين ميناء العقبة البحري ومطار غرندل الجوي بغية تأمين الإمدادات والنقل العسكري من مؤن ومعدات وتعزيزات أفراد إبان الحربين العالمية الأولى 1914 م والثانية 1939 م موازية لطرق القوافل التجارية ودروب الرواحل بين معان وبئر السبع وسيناء بمصر المعروفة قبل انتشار وسائل النقل الحديثة، مدّت بشكل موازي للجبال بغية تجاوز التجمعات المائية والوحل والكثبان الرملية لغاية ما انتهى تواجدهم بالمملكة حسب المؤرخ د. بكر خاز المجالي.
وادي قصيب ..
ويعد من أجمل أودية وروافد وادي عربة لتنوع تضاريسه وادي سهل المسير دون معيقات ضمن مرحلة من درب الأردن الممتد من أم قيس شمالا إلى العقبة في أقصى الجنوب والعامل عليها رفيقنا أبو ثائر بالدعم اللوجستي والإرشاد حسب توزيعات المناطق والمراحل التي سرنا عليها جميعا، والتي أصبحت مقصدا لعشاق المسير والترحال ومحبين الإستكشاف وخوض مغامرة بساطة العيش في الخلاء.
وعند عين قصيب كانت استراحتنا الأولى لتناول وجبة الإفطار بما حملناه من زوّادة الطعام وقد تصادف وجود سُياح فرنسيين قدموا من البتراء وقد أذهلهم جمال وطبيعة المكان بما فيه من آثار وتاريخ المغاير عن كل ما رأوه من جمال بتجوالهم بدروب ومسارات عديدة بالعالم لتكتمل هنا بكرم البداوة والأمن والأمان ضمن قوانين وتعليمات نظمتها وزارة السياحة والآثار لتنظيم هذا القطاع المتخصص من السياحة والذي غدا جامعا ما بين السياحة والثقافة والرياضة واهتمام أنصار الطبيعة والبيئة والخلوة وترويج هيئة تنشيط السياحة في أهم المعارض العالمية والمحافل الدولية.
وادي مذهل بحق بمسار بين شواهق صخرية وطبقات حصوية تراكمت عبر الزمن حملها السيل عام بعد آخر ليكون هذا الجمال المدهش بوادي يتشابه بالإسم فيه مع وادي آخر بمأدبا مغايرا كليا بالطبيعة والتكوين إلا أن لكل منهم ذاكرته الخاصة بخوض مغامرته، إلى أن وصلنا للنقطة التي سوف تكون مسيرنا لوادي الوسقة " الوادي الملون" المعروفة بنقطة الشجرة.
الوسقة " الوادي الملون" ..
مع أني أختلف كليا بتغيير أسماء الأماكن وتحديثها إلا أنه يجب المحافظة على الإسم القديم واعتماده وإن يطلب الإسترشاد بالإسم الجديد فليكن مقرونا بالإسم الأصلي القديم للدلالة عليه ومثال ذلك ما آل إليه إسم وادي غوير لوادي النخيل بالشوبك.
أما عن هذه المرحلة فتتطلب استخدام عصي الإرتكاز خشية الإنزلاق أو التعثر بحجارها الحصوية مع أنها ممهدة بوضوح وعناية، وما أن تدخلها حتى تختلف المشاهد وطبيعة الصخر وتنوعها وفي كل زاوية للجبال يشدك جمالها ويأسرك مع كل خطوة، وتأخذ بدهشة المكان لأي جزء تحب أن تلتقط صورا تذكارية، إلى أن تبلغ بطن الوادي الذي تبدأ بصعود طوده الكرميدي ضمن الدرب المتعرج ، المعلم على كتفه تجاوزا لأحد المقاطع إلى أن تبلغ قمته، وللقمم عشاقها ونشوة الوصول لجلسة تأمل طويلة يدار فيها الحوار بين الضوء والظل فوق الدرب الذي أتممته.
التيجان الملونة ..
ولم تكن هذه الدهشة هي النهاية لا بل إن ما بعدها أكثر جمالا، فبعد المسير مسافة فوق صخور تناظرت وتقاطعت بها عروق من مختلف الألوان كانت قد تشكلت بأثر ترسب الأملاح والمعادن، لتنتقل بعدها لعالم آخر استحق أن يطلق علية المفتونين به " الوادي الملون" وهنا لا ألومهم بل هو كذلك بالفعل، فما من صخرة أو طرف طود تنظر إليه إلا واجتمع فيه ألوان الطيف السبعة وتدرجاته بتشكيلات كأنها تيجان ملوك وقياصرة زينت الجبل بعناية فائقة لتقف مذهولا مع صمت المكان وهيبته تاركا فيك من طاقته الشيء الكثير ، وبالمقابل أقصى ما تتركة هناك آثار أقدامك لتمحوها نسمات الليل بقدوم المساء، رسخ هذا المفترق من الرحلة بذاكرة لا تنسى أبد الدهر، والكثير من الصور التقطتها كاميراتنا المحمولة ، مع الإجماع على أن نعود لزيارة المكان والتخييم فيه. ومع أن الأماكن تحتاج وقتا لتئلفها إلا أن هذا الوادي تحديدا سوف يأسرك منذ اللحظة الأولى بكل معنى الكلمة.
ومع نهاية الوادي تفرع إلى منطقة خميلة نسبة لما فيها من نخيل و وادي امولح واحيمر المتجه نحو العباسية والحميمة وديار المناجعة العامرة إلا أننا أخذنا طريق التفافي خلف الجبال عبر كثبانه الذهبية نحو نقطة البداية مرورا بأشجار سيال وطرفا ورتم، وبذلك نكون قد أنهينا مسارنا بإتمام 26 كلم محملين بذاكرة المكان وموجهين الدعوة لعيش التجربة ومشاهدة هذا الجمال.