التعليم في العالم العربي: أزمة مستمرة تتطلب إصلاحًا جذريًا
د. هاني الضمور
08-12-2024 12:55 AM
شهد التعليم في العالم العربي خلال العقود الأربعة الماضية تراجعًا ملحوظًا يعكس أزمة هيكلية عميقة تؤثر على جودة التعليم ومخرجاته، ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة ويعوق تحقيق التنمية المستدامة. هذا التدهور، الذي يمكن وصفه بالتدمير الممنهج، لم يكن مجرد نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية، بل هو انعكاس لسياسات تربوية عشوائية تفتقر إلى رؤية واضحة واستراتيجية طويلة الأمد. على الرغم من محاولات الإصلاح التي جرت تحت شعارات التطوير، فإن هذه المحاولات غالبًا ما فشلت في معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة، ما جعل أزمة التعليم تتفاقم بمرور الوقت.
نتائج الاختبارات الدولية لعامي 2022 و2023 كشفت عن حجم الكارثة التي يعيشها التعليم العربي. في الأردن، على سبيل المثال، جاءت نتائج اختبارات TIMSS لتؤكد هذا التراجع. فقد حصل طلبة الصف الثامن في الرياضيات على 388 نقطة مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 478 نقطة، مما يعكس فجوة تعليمية كبيرة تصل إلى 90 نقطة. في العلوم، كانت النتائج أقل بـ65 نقطة عن المتوسط العالمي. أما اختبارات PIRLS، التي تقيم قدرة الطلبة على فهم النصوص، فقد أظهرت نتائج مخزية، إذ حصل الطلبة الأردنيون على 381 نقطة فقط مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 503 نقطة ومتوسط عربي 429 نقطة. هذه الأرقام تضع الأردن في مرتبة متأخرة عالميًا وعربيًا، وتعكس ضعفًا بنيويًا في النظام التعليمي.
على الجانب الآخر، تظهر التجارب الناجحة مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية مدى أهمية تبني سياسات تعليمية واضحة ومتسقة. فقد حصل طلبة سنغافورة في اختبارات الرياضيات للصف الثامن على 605 نقاط، مما يعكس تفوقًا كبيرًا على المستوى العالمي. في المقابل، يُظهر التعليم العربي، بما في ذلك الدول التي حصلت على دعم مالي دولي لتطوير مناهجها، عجزًا عن تحقيق قفزات نوعية مماثلة. هذا التباين الواضح يثير تساؤلات حول الأسباب الحقيقية لتراجع التعليم العربي وما إذا كانت المشكلة تكمن في التمويل فقط أم في السياسات التعليمية ذاتها.
أحد أهم أسباب هذا التراجع هو تدهور وضع المعلم في الدول العربية. على مدار العقود الماضية، شهد المعلم تهميشًا كبيرًا، بدءًا من تدني الرواتب وانتهاءً بضعف برامج التدريب والتأهيل. في الأردن، يعمل العديد من المعلمين في وظائف إضافية لتغطية احتياجاتهم الأساسية، ما يؤدي إلى انخفاض جودة التعليم الذي يقدمونه داخل الفصول الدراسية. غياب الحوافز والتدريب المستمر يساهم في فقدان المعلم دوره الأساسي كقائد تربوي وقدوة للطلاب. في المقابل، تعتمد الدول المتقدمة مثل سنغافورة على تدريب مكثف ومستمر للمعلمين، مما ينعكس بشكل إيجابي على الأداء التعليمي العام.
إلى جانب ذلك، تعاني المناهج الدراسية في العالم العربي من ضعف جوهري. بدلاً من أن تكون أداة لبناء العقول وتنمية المهارات، أصبحت هذه المناهج انعكاسًا لسياسات غير مدروسة وأحيانًا تدخلات خارجية تخدم أجندات الممولين. دراسة أجرتها منظمة اليونسكو أكدت أن المناهج الموجهة تقلل من قدرة الطلبة على التفكير النقدي والإبداعي، مما يعزل التعليم عن الواقع المحلي ويحد من قدرة الأجيال القادمة على مواجهة التحديات الحقيقية. هذا النوع من المناهج يفتقر إلى الرؤية الوطنية ويحول التعليم إلى أداة للتبعية بدلًا من أن يكون وسيلة للتحرر والتنمية.
من بين القضايا التي تفاقم أزمة التعليم في العالم العربي، يبرز الفاقد التعليمي والفقر التعليمي كعوامل رئيسية. الفاقد التعليمي، الذي يُعرف بأنه الفرق بين ما يجب أن يكتسبه الطلبة وما يكتسبونه فعليًا، بلغ في الأردن 52% في عام 2022 وارتفع إلى 60% في عام 2024. أما الفقر التعليمي، وهو عدم قدرة طلبة الصف الرابع على فهم نص بسيط، فقد وصل إلى 63% وفقًا لتقرير البنك الدولي. هذه الأرقام تعكس ليس فقط ضعف النظام التعليمي، بل أيضًا ضعف القدرة على التخطيط لمعالجة هذه القضايا. رغم إعلان وزارة التربية الأردنية عن خطة لمعالجة الفاقد التعليمي خلال ثلاث سنوات، فإن الوزير لاحقًا صرح بأن معالجة هذا الفاقد تحتاج إلى عشر سنوات، مما يعكس التخبط في السياسات التعليمية.
على الرغم من كل هذه التحديات، فإن الحلول ليست بعيدة المنال إذا تم تبنيها ضمن رؤية واضحة ومستدامة. التجارب العالمية الناجحة تقدم نماذج يُمكن الاستفادة منها. في سنغافورة، يبدأ تدريب المعلمين منذ المرحلة الثانوية عبر برامج صارمة تضمن جودة التدريس، بينما تخصص كوريا الجنوبية ميزانيات كبيرة لتحسين بيئة التعليم وربط المناهج بسوق العمل. هذه التجارب الناجحة لم تعتمد فقط على التمويل، بل على التخطيط المدروس واستقلالية السياسات التعليمية.
التعليم العربي بحاجة إلى ثورة بيضاء شاملة تعيد بناء منظومته على أسس وطنية ومستدامة. هذه الثورة تبدأ من إعادة الاعتبار لدور المعلم عبر تحسين أوضاعه المادية وتوفير برامج تدريبية مستمرة. المناهج الدراسية تحتاج إلى مراجعة شاملة تركز على تنمية المهارات العملية والتفكير النقدي وربط التعليم بسوق العمل. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تُعزز السياسات التعليمية من خلال تعيين قيادات تربوية مؤهلة بعيدًا عن المحاصصة السياسية.
إن معالجة أزمة التعليم في العالم العربي تتطلب إرادة سياسية حقيقية واستثمارات مستدامة. يجب أن يُنظر إلى التعليم كأولوية وطنية وليس كمجال للتجارب غير المدروسة. كما أن التعاون مع المؤسسات الدولية يجب أن يكون قائمًا على شراكات تحقق المصالح الوطنية، بدلًا من فرض رؤى خارجية تخدم أجندات محددة.
التأخر في إصلاح التعليم يعني المزيد من التراجع ليس فقط على المستوى التعليمي، بل أيضًا على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. التعليم ليس رفاهية، بل هو أساس بناء الأمم وضمان مستقبلها. إذا استمر التعليم العربي في حالته الراهنة، فإن الأجيال القادمة ستجد نفسها غير قادرة على مواجهة تحديات العصر، ما يهدد بفقدان مكانة الدول العربية في المشهد العالمي. المطلوب اليوم ليس مجرد إصلاحات سطحية، بل ثورة شاملة تعيد بناء التعليم من جذوره ليكون وسيلة للتحرر والنهوض، وليس أداة للتبعية والتراجع.