استضافت العاصمة الأردنية عمان منتدى التعددية وميثاق الأمم المتحدة : تعزيز التعاون الدولي من أجل الإنسانية وهو ما اعتادت عليه الأردن منذ تأسيس امارة شرق الأردن فكانت الحاضنة دائما والجامعة للعديد من الثقافات والجنسيات والقوميات وملجأ وحضنا دافئا للجميع . فالتعددية هي البذرة التي تشكّل روح الإنسانية منذ بداية الخليقة ، فمنذ أن دبّت أولى الخطوات على وجه الأرض، ظهر التنوع كشريان حيوي في نسيج الحياة البشرية، يثريها ويعمق فهمها لذاتها وللآخر. هذا التنوع ليس مجرد صدفة بيولوجية أو جغرافية، ولكنّه كان رسالة تحمل معاني التعايش، والتفاهم، وقبول الآخر.
فالإنسان، بطبيعته، كائن يبحث عن المدلول، ومن خلال هذا البحث تفاعل مع التنوع الذي يحيط به، سواء أكان دينيًا أم ثقافيًا أم عرقيًا. تعددت اللغات لتصبح رموزًا تُبنى بها الحضارات، وتنوعت الأديان لتكون قنوات اتصال مع الغيب، وتباينت العادات والتقاليد لتشكّل طابعًا فريدًا لكل مجتمع. إنّ التعددية لم تكن يوماً مدعاةً للصراع، إنّها فرصٌ للتعلم، وميدانٌ للاكتشاف، ومساحةٌ لتبادل الخبرات التي تجعل الحياة أكثر غنىً.
ويشهد التاريخ على عظمة التنوع وأهميته، فالحضارات الكبرى لم تزدهر إلا حينما قبلت التنوع واستفادت منه. كانت الإمبراطورية الإسلامية في أوج مجدها تحتضن علماء من ديانات، وأعراق متعددة، يعملون معًا في بيت الحكمة على ترجمة النصوص وتطوير العلوم. وفي عصر النهضة، استفادت أوروبا من الفكر الإسلامي والعربي، واستلهمت منه نهضتها الفكرية والعلمية. وفي العصر الحديث، يشهد العالم أن المجتمعات التي تحتضن التعددية، مثل كندا وسنغافورة، تتميز بالنمو السريع والابتكار.
ويجب أن نعي أن التعددية ليست فكرة رومانسية وأمنية حالمة تخلو من التحديات؛ فالخوف من الآخر، والرغبة في السيطرة، والعنصرية التي تتغذى على الجهل، كلها عوائق تحاول تهديد هذا النسيج الإنساني. وهنا نحن نرى أن تاريخنا حافل بالحروب والصراعات التي اندلعت بسبب رفض الآخر، ومحاولة إقصائه، من الحروب الدينية في العصور الوسطى إلى الصراعات العرقية في القرن العشرين. ومع ذلك، ومع كل محاولة لقتل التعددية، كان هناك دائمًا أصوات تتعالى بأهمية التعايش والسلام، أصوات ترتفع لتقول إن الإنسانية لا تزدهر إلا حينما تحتضن جميع ألوانها.
إن قبول الآخر يعني التسامح معه، والاعتراف بوجوده كجزء أصيل من الكيان الإنساني. إنّه يعني النظر إلى التنوع على أنه مصدر قوة لا ضعف. والمجتمعات التي تفشل في إدراك هذا، تفقد قدرتها على التكيف مع التغيرات، بينما تلك التي تحتضن التنوع، تزدهر وتصبح أكثر مرونة؛ مثال بسيط يظهر في عالم الأعمال اليوم، حيث تشير الدراسات إلى أن الشركات التي تحترم التنوع الثقافي والديني بين موظفيها تحقق أداءً أفضل.
إن التعددية لا تقتصر على العلاقات الإنسانية اليومية، بل تشمل البعد الروحي والفكري للإنسانية، فالأديان، على اختلافها، تحمل في جوهرها دعوة للتعايش؛ الإسلام يدعو إلى التعارف بين الشعوب، والمسيحية تكرّس المحبة والسلام، والهندوسية تعظّم التوازن بين الأرواح. هذه الرسائل ليست متناقضة، إنّها متكاملة حين تُفهم في سياقها الإنساني الشامل؛ فالرسالات السماوية وغير السماوية تؤكد أن التعددية هي انعكاس للإرادة الإلهية، ولذا فإن محاولة القضاء عليها ليست سوى تحدٍ لهذه الإرادة.
ولكن في هذا العالم المضطرب، يظل التحدي قائمًا. التطرف والإقصاء ليسا إلا علامات على ضعف المجتمعات، لا قوتها. مع ذلك، تظهر بين الحين والآخر لحظات فارقة تذكرنا بأهمية التعددية؛ فعندما اجتمع العالم لمواجهة جائحة كورونا، كان التعاون بين الدول والمجتمعات المختلفة هو المفتاح للتغلب على الأزمة. هذه اللحظة وغيرها تبرز أن التعددية ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي ضرورة للبقاء.
إن التعددية ليست خيارًا، إنها ضرورة، إنّها الأمل الذي يحيي المجتمعات، والجسر الذي يربط بين القلوب والعقول. إنّ الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، ولا يمكن أن يجد معنى لوجوده في العزلة أو الإقصاء. وتبقى التعددية التحدي الأكبر للإنسانية، لكنها في الوقت نفسه هي فرصتها الأعظم. وفي السطر الأخير، وعندما تُطلق الرصاصة الأخيرة، ستظل التعددية حيةً، لأنها الفكرة ولأنها القيمة، ولأنها هي جوهر الإنسان.. وسُنَّةٌ من سُنَنُ الحياة.
وتقدم الطبيعة درسًا بليغًا عن أهمية التعددية والتنوع؛ فالغابة، تلك المنظومة البيئية المهيبة، لا تستقيم ولا تنمو إلا بفضل تنوعها الحيوي، الأشجار العالية التي تمد ظلالها، والشجيرات التي تتغلغل بين مسامات التربة، والحيوانات الغير المستأنسة التي تسيطر على التوازن الطبيعي، والكائنات الدقيقة التي تعيد الحياة إلى التربة، كلها تعمل بتناغم عجيب لتخلق حياةً لا يمكن فصل عناصرها عن بعضها بعضاً. إنّ الغابة صورة حية للمجتمعات البشرية. كل كائن فيها، مهما بدا صغيرًا أو ضعيفًا، له دور لا غنى عنه. فالتنوع هو أساس التوازن، وحين يختل هذا التنوع، تنهار المنظومة. عندما تتعرض الغابات لفقدان أحد أنواعها، سواء كان بسبب التدخل البشري أو تغير المناخ، يصبح تأثير ذلك كارثيًا على بقية الأنواع، حيث تتشابك العلاقات البيئية بطريقة تجعل كل عنصر ضروريًا لبقاء الآخرين.
العبرة التي تقدمها الغابة هي أن القوة الحقيقية تكمن في التنوع. النباتات التي تعتمد على بعضها للتلقيح، والحيوانات التي تتنقل بين الأشجار لنشر البذور، وحتى الحشرات التي قد تبدو غير ذات قيمة، تشكّل معًا شبكة متكاملة تضمن استمرار الحياة. هذه الشبكة من النظام البيئي، تُشكِّل درساً في قبول الآخر، والعمل معه لتحقيق هدف مشترك.