عرفت لأول مرة عن كتاب "الفلاحة النبطية"، لمؤلفه الفيلسوف الآرامي قثامى الكسداني، قبل أيام قليلة، عندما اطلعت على كتاب "حراثة المفاهيم" لسعيد الغانمي. وشعرت بخجل كبير لأني لم أطلع من قبل على هذا الكتاب العظيم. ثم وجدت الكتاب في مكتبة الجامعة الأردنية وقد نشره محققا المعهد الفرنسي للدراسات العلمية بدمشق العام 1993، في مجلدين ضخمين تزيد صفحاتهما على 1500 صفحة من القطع الكبير.
عاش قثامى الكسداني في القرن الثاني الميلادي، ووضع كتابه باللغة السريانية. وقد اكتشف ابن وحشية أبو بكر أحمد بن قيس الكسداني الكتاب عندما أقنع النبط الكسدانيين بإطلاعه على مكتباتهم الموروثة والمغلق عليها بإحكام. ووجده كتابا في 1500 ورقة مكتوبا على الرق (نوع من الجلود المدبوغة المرققة، المعدة للكتابة، قال تعالى "والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور")، وكان مكتوبا بالسريانية القديمة، وكان اسمه "الفلاحة"، ووضع له المؤلف عنوانا آخر شارحا "كتاب إفلاح الأرض وإصلاح الزرع والشجر والثمار ودفع الآفات عنها". ويبدو أن إلحاق تسمية النبطية جاءت متأخرة بعد قرون، عندما تكاثرت الكتب التي تحمل عنوان "الفلاحة". وابن وحشية هو أيضا من السريان الكسدانيين الذين أسلموا وتعرّبوا. ومن الواضح أن الآراميين والسريان في تحولهم إلى العروبة والإسلام والمسيحية قد فقدوا تراثا هائلا من العلوم والفلسفة والآداب.. وهذا أمر محير ومؤسف.
يمكّننا الكتاب من ملاحظة الحياة الفكرية والفلسفية والعلمية التي توصلت إليها الحضارة الآرامية في مرحلة مبكرة من التاريخ. ويؤشر في ذلك على مستوى متقدم في التنظيم والإنجاز الاقتصادي والثقافي والعلمي، ويتحدث عن مفاهيم وقواعد اقتصادية وتنموية تبدو كأنها منجزات حديثة، مثل تطوير الريف حتى لا يهاجر أهله إلى المدن، وتشجيع الصنائع والحرف بين المزارعين، والاعتماد على التجربة في تطوير الزراعة والتقنية، بل وفي الأفكار والفلسفة أيضا.
وكان قثامى الكسداني يدعو إلى العقلانية في الفهم والتطبيق. ولذلك، فقد جاء في كتابه كثير من الأفكار والآراء الفلسفية والدينية والمعلومات التاريخية التي تبدو اليوم أكثر أهمية من الزراعة التي استغرقت معظم صفحات الكتاب. ومن مبادئه وأقواله في هذا الصدد "إنني رجل أقول بالتجربة، فما صححته التجربة مشاهدة صححته، وما أبطلته التجربة المستقيمة أبطلته، وأرى أن التجربة أصل كبير من أصول العلوم النافعة والضارة".
وفي منهجه هذا يتوقف قثامى عند النباتات واحدا واحدا، مبتدئا بالأعشاب الصغيرة منتهيا بأخت آدم (النخلة) شعار العراقيين القدماء. وهو يراعي في كل ذلك تغيرات الأزمنة، وما تحمله معها من تغيرات تطرأ على النباتات، وأنواع التربة والمياه، وحركات الرياح، والأسمدة. وهكذا، فبحثه في النباتات بحث علمي تجريبي، ويجرب زراعته واستعمالاته المختلفة، ويتابع أحيانا تاريخه، ويستطرد إلى مناقشة الآراء الدينية أو العقائدية المقترنة به.
وبالطبع، لا يمكن استيعاب الكتاب والتعبير عنه في مثل هذه المساحة، ولكن لعلي أعود إليه أو أعرضه في مساحة معقولة على صفحات "الغد".
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo
(الغد)