*كيف يُبنى مجتمع على أسطورة التهديد؟!..
عندما نتأمل طبيعة الكيان الإسرائيلي.. نجد أنفسنا أمام مشهد بالغ التعقيد.. فهو كيان لم يُبنَ على أسس طبيعية.. أو ثقافية مشتركة.. بل هو خليط من جماعات بشرية.. جُمعت من شتات العالم.. لكل منها لغتها.. وتقاليدها.. وخلفياتها التي تختلف وتتناقض أحياناً.. هؤلاء وَجدوا أنفسهم في أرض ليست لهم.. ولكنهم أُقنِعوا بعقيدة محكمة الصياغة بأنها "أرض الميعاد".. هذا الإقناع لم يكن مجرد خطاب ديني.. أو تاريخي.. بل كان مشروعاً متكاملاً.. يحمل في طياته أدوات إعلامية ونفسية وسياسية.. لضمان استمرار هذا التجمع.. الذي لا يجمعه رابط حقيقي.
من هنا.. تتضح واحدة من أبرز السياسات التي يتبعها قادة الكيان.. أو ما يُعرف بالدولة العميقة.. سياسة "صناعة العدو".. هذه السياسة ليست مجرد استراتيجية دفاعية.. بل هي أداة ضرورية لحشد مجتمع متصدع.. ومليء بالخلافات والانقسامات.. العدو في هذه الحالة.. قد يكون ضعيفاً.. وغير قادر على تهديد وجود الكيان فعلياً.. لكن عبر الإعلام.. والتصريحات السياسية.. والأدوات النفسية.. يُضخّم خطره.. ويُصور على أنه تهديد وجودي.. يتطلب التكاتف.. ونبذ الخلافات الداخلية.
هذه الحرفية في استخدام الإعلام.. تظهر بشكل واضح.. حيث يتم صناعة روايات دقيقة.. تبالغ في تصوير التهديد.. تُستغل فيها الصور والمصطلحات التي تثير المشاعر.. وتخلق الخوف.. فيشعر الفرد الإسرائيلي بأنه محاط بخطر محدق.. وأن الدولة هي الحصن الوحيد.. الذي يحميه من هذا المصير المجهول.. فينسى خلافاته الداخلية.. ويتوحد مع غيره.. تحت مظلة "الخطر المشترك".
هنا.. يظهر دور الإعلام في تعقيد المشهد.. فهو لا يكتفي بدور الترويج.. بل يلعب دوراً محورياً في بناء الرواية الرسمية.. التي تُظهر الكيان في صورة المدافع عن نفسه أمام تهديد دائم.. وهذا يتجلى حتى في اختيار الأسماء الرسمية.. مثل "جيش الدفاع الإسرائيلي".. الذي يحمل في طياته رسالة دفاعية مضللة.. تُصور الكيان وكأنه الطرف المهَدَد.. وليس المعتدي.
هذه الروايات لا تقتصر على الداخل الإسرائيلي.. بل تُصدر للخارج بشكل مكثف.. حيث يتم استهداف شعوب المنطقة.. بإعلام موجّه يحمل رسائل مشفرة.. تجعل بعض الأفراد.. يعتقدون أنهم يقومون بواجب نصرة قضاياهم حين ينشرون هذه الروايات.. بينما هم في الواقع.. يروّجون لسياسات الكيان بشكل غير مباشر.. وهذا يعكس مدى دقة الكيان في بناء سردياته منذ القدم.. فكيف به في عصر الإعلام الرقمي؟!.
لكن هذه السياسة.. رغم نجاحها المؤقت.. تحمل عواقب خطيرة.. إذ إن الإفراط في استخدامها.. دون حسم للأزمات المصطنعة.. يهدد مصداقية القيادة.. مع الوقت.. يدرك المجتمع أن هذا "العدو" ليس كما صُوّر لهم.. وأن الخوف الذي عُزف على أوتاره.. كان مجرد وسيلة للتلاعب بمشاعرهم.. هذا التكرار المفرط قد يؤدي إلى فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها.. خاصة عندما تتراكم الأزمات الداخلية.. التي لا يمكن التغطية عليها بخطر خارجي.
وعليه.. من يعتقد أن الكيان الإسرائيلي يتصرف بطرق بدائية وغير مدروسة.. أو أن سياساته عشوائية وغير منسقة.. هو ضحية بساطة التفكير.. الكيان وداعموه يعملون وفق خطط مدروسة.. تستهدف استغلال الثغرات في الوعي الجمعي للأمة.. خاصة أولئك الذين يظنون أن كل ما يُنشر واجب تداوله لخدمة قضاياهم.. بينما الحقيقة أن هذا التداول في كثير من الأحيان يخدم أجندات عكسية.
إذاً.. الكيان الإسرائيلي ليس مجرد كيان سياسي.. بل هو منظومة متكاملة.. تستخدم الإعلام.. والتخويف.. وصناعة الأعداء.. بشكل منهجي لضمان بقائها.. لكن هذه السياسات التي تبدو ناجحة اليوم.. قد تتحول إلى سيف ذي حدين إذا ما فُقدت المصداقية أو تصاعدت الانقسامات إلى حدٍ لا يمكن معه التوحيد أمام عدو وهمي.
فهل نستطيع أن نكسر هذه الدائرة الخبيثة؟!.. وهل وعي الشعوب.. قادر على فضح هذه السياسات.. وكشف أدواتها؟!.