العولمة إعادة تشكيل المشهد العالمي
أ.د وفاء عوني الخضراء
01-12-2024 09:50 PM
العولمة ليست خيارًا بل واقعًا يشكل العالم، ولا يمكن اختيار البقاء خارجها من حيث كونها تطورًا أيديولوجيًا ووجوديًا وفلسفيًا وسياسيًا منحازًا اختبرته ولا تزال المجتمعات البشرية. يعكس الوضع الراهن للعالم التعقيدات والتناقضات المرتبطة بالعولمة، فبعد أن بشرت العولمة بإنشاء "قرية عالمية" متناغمة، تجمع بين التنوع الوجودي والسياسي تحت إطار من التعاون والاحترام والتقدم المشترك، جاءت النتائج معاكسة ومخيبة لهذا الطموح النبيل بالكامل، بل على العكس من ذلك يحدث، حيث نشهد اليوم عالماً ممزقاً يعيش حالة من الانقسامات الحادة والاستقطابات تحركه دوامات العنف الذي يتصاعد يومًا بعد يوم حاملة معها مزيد من الأزمات التي تتكاثر وتنتشر أفقياً وعموديًا، ما يهدد بدفع البشرية نحو حالة من الفوضى والعبثية التي يصعب احتوائها.
ومع تحول العالم إلى عالم افتراضي منفتح، حيث تتداخل الحدود بين الواقع والرقمي، فإن هذا هو وجه آخر من وجوه العولمة التي تفرض نفسها على الجميع. في ظل هذا التحول، فإن العجز عن التكيف مع هذه التطورات سيؤدي إلى تهميشنا في عالم يسير بسرعة نحو الرقمية والتفاعلات الافتراضية. ولذلك، إذا لم يكن بإمكاننا هزيمة العولمة أو التغلب عليها، فعلينا أن نلتحق بها وفقًا لقيمنا وأعرافنا، وأن نعيد تشكيل هذا الواقع بما يتماشى مع احتياجاتنا وقيمنا وأهدافنا الخاصة.
تصاعد العنف في مختلف مناطق العالم يُجسد عواقب الإخفاق في معالجة الانقسامات داخل المنظومة العالمية، يؤكد على ذلك تلك المشاهد القاسية من المأساة الإنسانية المتفاقمة و الإبادة الممنهجة في غزة وإلى حالة الاضطراب المستمر في لبنان مروراً باليمن وسوريا، حيث تعم الفوضى وتزداد المعاناة، إلى الصراع الوحشي في السودان الذي شرد الملايين، وأخيراً الحرب المدمرة في أوكرانيا التي أججت التوترات الجيوسياسية وها هي تضع العالم أمام شبح حرب عالمية ثالثة نووية. إن هذه البؤر الساخنة ليست حوادث معزولة، بل أعراض متصلة لنظام عالمي تنهار فيه بشكل دراماتيكي آليات الحوار والعدالة وتغيب عنه لغة الدبلوماسية لصالح لغة العنف والاستقطاب والاستقواء العسكري وتفاقم الفجوات الاقتصادية والمواردية.
يكشف هذا الواقع المرير المبتلى بالأزمات المركبة عن حقيقة أكثر مرارة مفادها أن النظام العالمي الحالي عاجز عن منع النزاعات أو حلها، وبدلاً من التكاتف لإيجاد الحلول، تزيد الدول والمجموعات من تعميق الانقسامات، ما يؤدي إلى معاناة إنسانية تتفاقم، هناك في كل يوم حياة بريئة تُزهق، وأجيال تُهجر، ومجتمعات تُدمر بالكامل ودول مهددة بالخروج عن الخارطة.
لم تعد التقسيمات الجيوسياسية التقليدية، التي كانت الدول تتنافس فيها على الهيمنة عبر القوة العسكرية والسياسية، صالحة في هذا العصر. هذا الإطار المتقادم يساهم في تأجيج الصراعات وتعميق الدمار، وعليه فإن الإقرار بهذه الحقيقية من شأنه أن يطرح تساؤلا استراتيجيا، ما الذي نحتاجه الآن؟ الإجابة واضحة ألا وهو تحول جذري نحو إقتصاديات التعاون، والدعم المتبادل، والتكامل بين الدول، بحيث تُبنى التحالفات على أساس المنفعة المشتركة والتكافل بدلاً من الإستقواء والصراع والتنافس.
إن منع مزيد من التدهور العالمي يحتّم على المجتمع الدولي أن يتبنى نهجًا جديدًا يعيد تحديد الأولويات ويعيد صياغة الإمكانيات. ومن بين المبادئ الأساسية لتحقيق هذا التحول ما يلي:
من التسلح إلى الابتكار: يجب أن تُستبدل الاستثمارات في التسلح والترسانات العسكرية باستثمارات في الإبداع والابتكار؛ إذ يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها من الموارد التكنولوجية الناشئة أن تقود الإنسانية نحو حلول تعود بالنفع على الجميع.
إعادة صناعة الخطاب العالمي: يحتاج العالم إلى خطاب جديد يغادر على الفور لغة القوة والصراع إلى لغة التعاون والشمول وتغليب حقوق الإنسان والنظام البيئي على المطامع والمكاسب؛ حيث تُوجه أنظمة الحكم في العالم طموحاتها وفق قيم مشتركة بدلًا من التطلعات والمنافع الأحادية.
معالجة جوهر الصراعات: ينبغي على المجتمع الدولي أن يركز على معالجة القضايا الأساسية ويجد حلولًا بنيوية لها مثل الاستقواء العسكري، الفقر، غياب الإنصاف في الوصول الى الفرص والموارد والخدمات، تهميش الاقتصادات المحلية والناشئة،غياب المساواة الاقتصادية، التجانس الثقافي القسري، التدهور البيئي، استغلال العمالة، والتهديدات لسيادة الدول.
ترسيخ القيم الإنسانية: التضامن والتكافل والإيثار والحكمة في صنع القرارات والاحترام المتبادل ليست مجرد مثاليات حالمة أو رومانسية قديمة؛ بل هي مستقبل البشرية. يجب أن تُشكل هذه القيم أساس العلاقات الدولية وأن تُوجه استجابتنا الجماعية للتغيرات السريعة.
إعادة إنتاج القوالب السياسية والدبلوماسية العالمية: هناك حاجة ماسة إلى تبني نهج عالمي جديد واستجابة فورية تواكب التحولات السريعة في العالم. يتطلب ذلك إعادة النظر في الأطر السياسية ونماذجها وحاكميتها وأنسنتها لتشكيل المشهد العالمي.
إن التحديات التي تفرضها العولمة لا تقتصر على الحاجة إلى التقدم التكنولوجي والمعرفي، بل تتطلب أيضًا تحولًا أخلاقيًا عميقًا يعيد صياغة أنماط العمل السياسي وفعله في إدارة العلاقات والهياكل العالمية.
يمكن لمجتمع عالمي قائم على التعاطف والتعاون والتكافل والإنسانية المشتركة أن يتجاوز الانقسامات والأزمات التي تواجهنا اليوم. ويمكن من خلال والالتزام بحوكمة إنسانية عادلة، تجاوز قيود الماضي ورسم مسار نحو مستقبل أكثر انسجامًا وعدلاً وأن نعيد العولمة إلى سياقها القيمي التكافلي النبيل، ونستعيدها من حالة الاختطاف التي تعرضت له عبر عقود وتحويل وعد العولمة إلى واقع ملموس يعود بالنفع على الجميع، ويضع حدًا لدورات العنف والمعاناة التي تُثقل كاهل عالمنا وتهدد مستقبله.
ماذا يتطلب ذلك منا في الإقليم؟
يتطلب ضمان حضور قوي ومؤثر لإقليمنا على الساحة العالمية والتوافق حول رؤية استراتيجية موحدة تقوم على أهداف واضحة وأولويات مشتركة ترتكز على التعاون والتكامل، بعيدًا عن المنافسة والصراعات. إن تحقيق هذا التماسك الإقليمي ليس ترفًا، بل ضرورة حتمية لزيادة الأثر والثقل السياسي والاقتصادي للمنطقة وتعزيز قدرتها على التفاعل الفعّال مع القضايا والتحديات العالمية لصمود مكانتنا في الساحة العالمية.
يكمن النجاح في التخلي عن النهج المجزأ الذي يُضعف من تأثيرنا، والانتقال إلى تبنّي رؤية شمولية تدفع نحو التعاون الإقليمي المبني على أسس متينة من الثقة والشراكة. الأردن، بحكمته واستقراره، وموقعه الاستراتيجي، يمثل نموذجًا فريدًا للوسيط الذي يسعى لتحقيق الخير العام للمنطقة، وليس المكاسب الخاصة. من خلال دعم التعاون الإقليمي وترسيخ هوية مزدوجة تجمع بين الانتماء الوطني والإقليمي، يمكننا بناء مستقبل تُسمع فيه أصواتنا مجتمعة ومؤثرة، ونصبح قادرين على إعادة تشكيل موازين القوى العالمية لصالح منطقتنا.
بل نحن، كمنطقة موحدة ومستقلة، سنعمل يدًا بيد على صياغة ما هو الأنسب لنا، بما يخدم مصالح منطقتنا وشعوبها، ويسهم في الوقت ذاته في تعزيز التوازن والاستقرار على الساحة العالمية. إن رؤيتنا المشتركة وروح التكاتف التي تجمعنا هي ما سيحدث الفرق الحقيقي، ويؤكد أننا أصحاب القرار في رسم ملامح مستقبلنا بأيدينا.