عفرا والبربيطة .. منتجع الملوك والقياصرة
عبدالرحيم العرجان
01-12-2024 12:23 PM
كما هما العينان مستقى الضياء فالبربيطة وعفرا هبة الخالق ومنبع جمال الجنوب، عبارة عن حمامات استجمامية كانت خلوة القياصرة ومقصد الملوك لجمال طبيعتها وطيب ثمارها ،أورثنا أجدادنا العرب الأنباط بالقرب منها أحد أهم معابد حضارتهم والمواقع التاريخية التي كانوا يلتقون بها وليس بالبعيد عنها كان يرتحل التجار محملين بالبخور والحرير آمنين المسير على الطريق القديم.
حمامات عفرا،،، بركة المَقلا.
بعد قيادة ثلاثة ساعات على الطريق "تراجان" الملوكي عابرين وادي الموجب بعد مأدبا وسهول الكرك وجبل شيحان وصلنا مقصدنا المسمى بعين عفرا والذي تسمّت به جميلات العرب نسبة لأرشق الغزلان خالصة البياض وهو السبب الذي أطلق على المكان لصفاء صخوره ونقائها المقترن بعفرة تراب الأرض التي تثور ساعة الحرث ،كما جاء العَلم بالسريانية من الأصل عفرا وعفرين، وهما ذات الأرض التي غدت مضرب مثل للذة ما تجود به أرضها من ثمار الجوافة والزيتون المعمر والحمضيات، لتغدوا بذلك درة المناطق لأجدادنا الأنباط، ليقيموا بالقرب منها معبد الذريح الأكبر خارج عاصمتهم الرقيم، وفيه وجد تمثال ذو الشرى واللات حارسة الثمار والخصب مزينة بأفاريز وتوريقات نباتية ومن المرجح لصلتها بالمكان، لتغدو اللات منتصبة بفخر بمدخل متحف الأردن بعمان وليس بالبعيد أيضا معبد التنور الحصين بطبيعته الجغرافية.
كان إفطارنا في استراحة الحمامات بعد الإستمتاع بمياه بركها الثلاث المتفاوتة في السخونة وإحداها معروفة بالمقلا تبلغ حرارتها صيفا 50 درجة ولا تقل في أبرد أيام الشتاء عن 17 درجة مئوية ، التي غدت مقصدا للإستجمام والعلاج البديل لأمراض المفاصل والعضلات والرئة لتشبعها بالمعادن والأملاح.
شهيد المكان..
وهنا نقف حيث استشهد فروة بن عمرو الجذامي عامل الإمبراطور البيزنطي هيرقل بعد أن صلبه ونكّل به ليتفسخ لحمه إثر حرارة عينها التي أمر بذبحه عليها بسبب دخوله الإسلام ، ودعى لمشاهدة الحدث كبار حاشيته ومعاونيه من قادة الولاية العربية لدب الرعب في قلوبهم من أثر غضبه بمخالفتة الرأي وعظم بطشه لكل من يحيد عن طريقه و يخالف أوامره.
ومع مجرى الماء الدافئ كان مسارنا كاملا بوادي عفرا، احتجنا لاستخدام عصي الإرتكاز لمعرفة عمق الخطوات وأين عليك أن تضع قدمك بالماء الذي يميل إلى الحمرة لتشبعه بما يحمله من خام الحديد الهاميتايت "وكأنما دم الذبيح الجذامي ما زال ينزف لهذا اليوم" ، وخشية الإنزلاق بما نبت من طحالب على صخور المكان الملساء، فركيزتك ويد العون وحذائك ذو النعل المقاوم للإنزلاق وأفضلها ما حمل الإشارة الصفراء "فيبرام" سبيلك لإتمام المسار بسلام دون إصابة مع الإنصياع لتعليمات دليلنا حسام القرعان الحاذق وابن المكان العارف لتفاصيله وخباياه والعامل في دلالة سياحة المغامرة ، وهو بالفعل ما حدث لأحد أفراد الفريق بسبب اختياره الخاطئ لحذاء تفسخ بأثر الماء وتضاريس المكان ،فما كان منه إلا أن أخرجه عبر طريق أوصله إلى بر الأمان بيسر وسهولة.
إن اختيارك لدليل من أبناء المنطقة يسهل عليك الأمر كثيرا لا بل يزيد من المتعة في الرحلة ،فأنت تسمع قصة التراث والتاريخ بلسان ابنها البار الذي ترعرع بها.
عروبة الوادي..
وفي أحد الكهوف شدنا نحت نبطي للآلهة ذو الشرى وهو دلالة جازمة لعروبة الوادي من منبعه حتى مصبّه جنوبي بحر زقر "البحر الميت" حيث كان يروي مزارع قصب السكر ويدير رحاها حين كان يصدر لممالك الجوار، تلاه حمام العزازمة الوجهه المقصوده لأبناء المنطقة وقبل التقاء ماء عفرا بشقيقه العذب ماء الحسا "زارد" كانت استراحتنا قرب أطلال مطحنة حبوب تبقى منها في المكان البرج والقناه ولم نجد مصدرا لتاريخهما وأعمارهما، جرت إليها المياه عبر قناة كما يجر اليوم أحفاد من أنشأها مياه السيل عبر خراطيم بلاستيكية لتروي مزارعهم على أكتاف الوادي، في حين فرضت الدولة العثمانية على أهالي عفرا دفع 1700 أُقجة ضريبة ومكوس على غلالها لعامل جبل بني حميدة دون أن يترك لو أثر واحد ينتفع به الناس .
وادي الحسا،،، ملقا الوديان..
وهنا في منتصف المسار كان لنا استراحة أخرى تحت الشلال وبركته التي حفرها مائه عبر مئات السنين قبل أن يلتقي وادي عفرا الحار المعدني بشقيقه الحسا العذب البارد ليجتمعا معا لرفد سيل الحسا الذي تحدثنا عنه سابقا بمقالنا " الحسا المعرّف بالروض المعطر" إلا أننا اليوم لن ندخل لتلك المرحلة بعد شلال مجهول بل سنتجه شرقا نحو رافده القادم من البربيطة وشقوق بقر المشابهة بذات الإسم لموقع آخر جنوبي ضانا.
مع عذوبة المياة اختلفت الحياة الفطرية فظهر مع مجرى السيل بكثافة القصب وتزين بالدفلى وتعطر بالشيح والزعتر الذي كانت رائحته تفوح بمرورنا، أخذنا بعضا منه لعمل ابريق شاي عند استراحتنا ولأهل البيت الذين ينتظرون بالعادة كيس جوال البراري.
شقوق بقر،،، الدهشة في النهاية..
ومع كل خطوة كان هناك ارتفاع إلى أن بلغنا مقطعا حادا يتطلب منا الدوران حوله لتكون بعده مفاجئة الطريق التي تعبر بنا لتجويف صخري منحني بقلب الجبل والذي أصبحت شقوقه موئلا لطير الدراج وفيه تسمع أصداء لصوت زقزقة الحنون والفري المعروف أيضا بالسمان أو الحجل.
إن أردت الدهشة إستمع لما كان يقوله الدليل "الدهشة لمن يتمم المسار" وبالفعل بعد المنعطف الأخير أدخلنا في سيق مائي لم نشاهد مثلة قط بتجوالنا، صدع بصخور بيضاء صقلتها الطبيعة بذكاء مشكلة منحنيات ولولبيات ومخاريط اعتلت على جانبي الطريق ،تحتار إلى أين تنظر أو ماذا تصور ؟ وفي كل زاوية هناك مشهد وتكوين سريالي يختلف عن الآخر يعجز عن رسمه أبدع فنانين الحداثة إلى أن أصبح رذاذ النواطف المنهمر من بين السرخسيات فاصلا كالستارة بين مرحلة وأخرى وكأنك في عالم آخر مختلف كليا عما تشاهده من جفاف الطريق المقطوع ما بين الطفيلة والكرك ، فأي جنان تحتضنها هذه الأودية، ومع ذلك يصر الدليل على أن الدهشة ما وجدناه في النهاية وبالفعل كان كذلك عندما وصلنا الشلال الذي تعجز عن وصفه الكلمات.
وبنهاية المطاف أخرجنا رفيقنا من أحد الصدوع مرورا بمزارع وبيارات وصولا إلى مخيم محلي طموح كان فيه تناول عشائنا الشهي ومبيتنا المريح، يقصده السياح والأهالي للإستجمام والإستمتاع بمائه القادم من سد التنور الذي عزز تعبئة الآبار الجوفية واستمرارية تدفق ماء العيون، وبذلك نكون قد أتممنا مسيرنا البالغ 14 كلم بسلام عاقدين العزم على العودة للمسير بمواقع أخرى حدثنا عنها الدليل.