من المعروف أنّ للأردن تجربة سابقة مع الرئيس الأميركي «ترامب»، فقد وقف موقفاً مشرفاً وقوياً في وجه «ترامب» خلال عُهدته الأولى حينما حاول تمرير ما أسماه «صفقة القرن» التي تضمنت إنشاء دُويلة فلسطينية منزوعة السيادة أشبه ما تكون «بالكانتونات» المعزولة، وكان «ترامب» قد أرفقها «بهدايا» لإسرائيل لم تكن تحلم بها كنقل السفارة الأميركية من «تل أبيب» إلى القدس، وغضّ النظر عن الاستيطان المستشري في الأراضي الفلسطينية، وحجب المساهمة الأميركية (حوالي 300 مليون دولار) عن الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بل والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على «الجولان» السوري المّحتل!
والآن يعود ترامب رئيساً في 20/01/2025 مُدّعماً «بكونغرس» ذي أغلبية جمهورية (في مجلس النواب والشيوخ)، كما يعود بمساعدين مؤيدين متحمسين لإسرائيل أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، مثل وزير الخارجية المرشح (روبيو)، ومُمثل ترامب في الشرق الأوسط (ويتكوف)، وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل (هكابي) ومندوبة أميركا في الأمم المتحدة (ستيفانك)، الأمر الذي يفرض على الأردن أن يتحسب للوضع الجديد، وأن يتخذ كل ما يستطيعه من إجراءات للحد من آثار السياسات السلبية التي من المُتوقع أن يتبناها «ترامب» وإدارته، وغني عن القول إن الأرد? استطاع في المرة الأولى لرئاسة «ترامب» أن يفّرغ بعضاً من سياساته إزاء القضية الفلسطينية من معناها حيث حشد التأييد الدولي «للأونروا» (أعادت إدارة «بايدن» التمويل) ودعمتها كثير من الدول مادياً، كما رفض التعاون في تنفيذ صفقه القرن مما أدّى إلى جعل الأخذ بها غير ذي معنى.
ولكن.. وفي مواجهه إدارة «ترامب» الجديدة ماذا بإمكان الأردن أن يفعل حقيقةً؟. إنّ عدداً من السياسات والإجراءات يمكن التفكير فيها، ولعلّ من أهمها:
أولاً: إنّ اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو وبتأييد غير مُستبعد من إدارة «ترامب» الجديدة يخطط لضم الضفة الغربية في عام 2025 كما صرح أحد أركانه (وزير المالية سموتريتش)، ولكن هذا اليمين يريد الضفة بدون سكانها بالطبع، أو بعبارة أخرى يريد الأرض بعد «تهجير» أهلها، ومن هنا فإن الأردن يجب أن يفعل كل ما في وسعه للحيلولة دون تهجير الأشقاء الفلسطينيين من أرضهم، وقد أعلن بالفعل بعد السابع من أكتوبر أن التهجير هو مثابة «إعلان حرب» عليه فضلاً عن أن فيه مخالفة صريحة للمعاهدة الأردنية الإسرائيلية الموقعة بين الطرفين في ع?م 1994. والواقع أنّ هناك خطوات إجرائية كثيره -فضلاً عن السياسات- يمكن اعتمادها للوقوف بقوة أمام تهجير المواطنين الفلسطينيين من الضفة الغربية.
ثانياً: إنّ الأردن يقيم نوعاً من التحالف الاستراتيجي والأمني مع الولايات المتحدة (كما يعتبره الناتو شريكاً مُوثوقاً وإلى درجة فتح مكتب له في الأردن)، وكما أن الولايات المتحدة تقدم للأردن ما يقارب (1.600) مليون دينار كمساعدات فإنّ الأردن يقّدم للولايات المتحدة الكثير، ولما كانت العلاقات بين الدول تقوم على المصالح لا على العواطف فإنّ الأردن يجب ألا يتردّد في اتخاذ الخطوات اللازمة التي تُفهم الإدارة الأميركية (وبخاصة أن له علاقات جيدة ومهمة في الكونغرس) أن الولايات المتحدة إذا دعّمت إسرائيل بما يضّر بالمصالح ?لعليا للدولة الأردنية فإنّ الأردن لن يسكت على ذلك، بل سيتصرف كدولة تعرف ما يمكن أن تأخذه وما يمكن أن تعطيه بالمقابل، وبخاصة أن «ترامب» رجل «صفقات» يُؤمن بالأخذ والعطاء، وبأنّ هناك ثمناً لكل شيء!
ثالثاً: إنّ العالم يتحرك الآن من واقع «القطب الواحد» حيث تتربع الولايات المتحدة على عرش العالم إلى واقع «الأقطاب المتعددة» حيث تبرز الصين، وروسيا، والهند وغيرها، ومن هنا فإنّ من الحصافة السياسية أن يلوّح الأردن بإمكانيه «تنويع» تحالفاته إذا ما رأى أنّ مصالحه الاستراتيجية في خطر بفعل السياسات الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة وشركائها الغربيين. إنّ الأردن يحظى بموقع مهم من منظور «الجغرافيا السياسية»، لذا فلا بد له أن يستثمر هذه الحقيقة الموضوعية، وأن يناور في ضوئها إذا لمح مخاطر تتهّدده في الأفق.
رابعاً: إن الأردن يتمتع بعلاقات جيدة جداً مع الدول العربية التي وقعت «الاتفاقات الإبراهيمية» مع إسرائيل في فترة رئاسة ترامب الأولى (وبالذات مع الإمارات والبحرين)، فضلاً عن علاقته مع السعودية التي من المنتظر أن يحاول «ترامب» اجتذابها إلى هذه الاتفاقيات، لذا فإن من الممكن أن يوظّف علاقاته العربية هذه من أجل لجم السياسات الإسرائيلية المدعومة أميركياً لتلافي الإضرار بمصالحه العليا التي هي في المحصلة مصالح هذه الدول أيضاً، وبخاصة أنها بعد السابع من أكتوبر أخذت تدرك أن المنطقة لن تهدأ، وأن القضية الفلسطينية لن ت?حل إلّا بإنصاف الشعب الفلسطيني الذي تعرّض «لمظلُمة» تاريخية ما زالت فصولها تتوالى حتى الآن حيث يشهد قطاع غزة «إبادة جماعية» موصوفة، ومجازر رهيبة يتابعها العالم كل يوم بالصوت والصورة.
إنّ الأردن يجب ألا يخدع نفسه «فتوجهات» ترامب معروفه، «وقناعات» أركان إدارته الجديدة مشهورة وموثقة، ولذا فإنه يجب أن يدرس بدقه مقومات صموده ومقاومته جيداً، وأن يلعب أوراقه بذكاء بحيث يمرّر «ولاية» «ترامب» الثانية كما «مرّر» الأولى بأقل الخسائر.
الرأي