الطبيب الأردني بين الحقيقة والتضليل
د. حاتم الرواشدة
01-12-2024 12:00 AM
في كل يوم تطلع علينا تصريحات الذين يدّعون بأنهم "المناصرين" للمستهلك المسكين وتراهم يستقوون يوماً بعد يوم ببعض الإعلاميين على أطبائنا في القطاعات كلها وخاصّة أطباء القطاع الخاص، إنهم يحاولون أن ينكلوا بروح الإنسانية التي تتكون مع الطبيب منذ اليوم الأول الذي يجلس فيه على أدراج كلية الطب، وهذه الإنسانية تترعرع في وجدانه وتبقى دوماً جزءاً لا يتجزأ من كيانه طيلة حياته، إن هؤلاء في كل مرة يتصدحون علينا بترانيم جديدة ويقذفون إتهاماتهم المصطنعة على الطبيب بلا سبب وبلا معنى ومنهم من يسترسل في طرح أدبياته البرّاقة على صفحات الإعلام متفنناً في رسم السطور تحت عناوين جديدة تحت قميص عثمان ومعلناً أنه يشعر بالحزن العميق على ذلك المواطن المريض الذي تنهشه أنياب الأطباء ليملؤوا بطونهم من قوت ذلك المواطن المسكين.
والحقيقة المرة انه إذا بقيت الجهات التأمينية ومن يدور في فلكها تدعي على الاطباء وتصفهم بكل هذه الصفات المؤذية التي نراها من اقلام بعض الإعلامين والمعلقين غير المنصفين على صفحات التواصل الإحتماعي بالتأكيد سيؤدي ذلك إلى عزوف الأطباء الخبراء المبدعين والمعروفين بعلمهم وأخلاقهم عن معالجة مرضى التأمين مما يؤدي إلى فقدان الخبرة في السوق الطبي الأردني وهذا بالتأكيد سينعكس على المواطن المحتاج إلى الاطباء الخبراء والمتفوقين وربما يؤدي لاحقا الى هجرات جماعية للأطباء خارج البلاد. او ان يمتنع الطبيب اختياريا عن التعامل مع الجهات التأمينية بعضها او كلها وفي النهاية ينعكس ذلك سلبا على المرضى وعلى شركات التأمين نفسها وهذا ما بدأنا نرى طلائعه الان.
إن الرد على هؤلاء المزيفين لحقيقة الطبيب الأردني يطول ولكن في هذه العجالة أريد أن أوضّح بعض الأمور:
أولاً :
لا بد من توضيح نقطة في غاية الأهمية، إن السّجال الذي حصل قبل أسابيع بين نقابة الأطباء والجهات التأمينية حول تطبيق التسعيرة والصندوق التعاوني أُستُغِل من قِبل بعض الأطراف لتشويه صورة الطبيب أمام المواطن بطريقة إعلامية إحترافية تخلو من العدالة والإنصاف، علماً إن السّجال الذي حصل هو فقط بين الجهات التأمينية والأطباء ولا علاقة للمريض بذلك كون الخلاف تنظيمي إجرائي ولكن للأسف أخذت بعض الجهات لتجييش الإعلام والشعب الأردني ضد الأطباء، وللأسف قد رأينا إنحياز بعض الإعلاميين مُتهمين الأطباء أنهم لا يُراعوا أوضاع المواطنين وأحياناً تراهم يتظاهرون بالإنصاف ويدّعون إلى إنقاذ المريض الذي أصبح فريسة لهذا الخِلاف وإن الأطباء هم السبب لأنهم رفعوا الأسعار علماً أن السبب بعيد عن ذلك تماماً لأن الأطباء يطالبون بتطبيق تسعيرة صدرت من وزارة الصحة ونظام الصندوق التعاوني الذي كذلك صدر بالجريدة الرسميّة، فهو إذن خلاف تنظيمي وليس مادي لأن تسعيرة ٢٠٢٤ قريبة من تسعيرة عمرها أكثر من عشرين سنة، إن الخلاف الاساس بصراحة هو الصندوق التعاوني الذي سيمنع أي تجاوزات من أي طرف ويضبط المهنة ويسمح للمريض أن يختار طبيبه بدون تدخل ولا توصيات من أحد.
إن الطبيب في المجمل ليس له نصيب عند الإعلام وقد يكون الأمر متعلقا بقلة تواجد الأطباء على المنابر الإعلامية أو قد تكون إنسانية الطبيب تغطي عليه بنوع من الحياء وتجعله لا يستطيع حتى الدفاع عن نفسه فضلاً على أن ليس لديه وقت للرد على هذه السهام المتلاحقة من هنا وهناك.
ثانياً:
خلال السنين المتلاحقة أخذت تكاليف المعيشة تزداد يوماً بعد يوم على الجميع دون استثناء بالرغم من عدم رفع الأجور للمواطنين منذ سنين، وهذا يجعلهم يتتبعون الإعلام ليجدوا طريقاً يعبّرون فيه عن جم غيظهم وسخطهم على كل من يرفع الأسعار وخاصةً من ليس له سند قوي مثل الأطباء الذين لا يتقنون فنون الرد الإعلامي مستغلين إنسانيتهم وحياءهم ليكيلوا لهم كل أنواع التهم والضغينة وهذا هو حال المعادلة في وطننا الأردن بين الطبيب والإعلام والمواطن، وهذا ما قاله لي يوما أحد الإعلاميين.. "إحرص بألا يدافع أي طبيب عن الأطباء لأن الإعلام قد شوّه سمعتكم وبات المواطن لا يصدقكم حتى لو كنتم على صواب"!!
وهذا بصراحة جعلني أتردد أن أكتب هذه الكلمات وأقول لنفسي، كيف أستطيع نشر هذه العجالة على صفحات الإعلام؟؟
ثالثاً؛
ما زال الطبيب الأردني منذ ثمانينات القرن الماضي هو الطبيب المرغوب والمحبوب لكل مرضى دول المنطقة بل هو الطبيب الأكثر تميزاً لكثير من دول العالم ونرى المرضى يشدون الرحال إليه من شتى البقاع ليجدوا هذا الإنسان البارع المبدع ولكن للأسف عند أبناء وطنه أصبح مكروهاً ومشكوكاً بإنسانيته، وأنه مادياً وبعيداً عن مبادئ الأصالة والأمانة والنبل، وأحياناً أصبح مشكوكاُ بقدارته الطبية التي ينبغي أن يتباهى بها ويفخر بهذه الكفاءة كل أردني حر أَبيٌ.
رابعاً:
إن الغالبية العظمى من الأطباء في وطننا الحبيب يتمتّعون بروح الإنسانية والكرم والطيبة ويقدّرون وضع المريض المادي والإجتماعي والأمثلة على ذلك كثيرة، وكون وجود قلة قليلة من الأطباء الذين أتعابهم تبدو فلكيةً للمواطن هذا لا يعني أن كل أطباء الأردن ماديين وفاقدي الإنسانية، بل إن معظهم يراعون المريض وقد يسامحون المرضى على أتعابهم.
والحقيقة هذه الأعمال الإنسانية نراها دوما من الطبيب الأردني بأستمرار ولا يحتاج الى من يدله على عمل الخير، ومن ينكر هذا فعليه ان يراجع نفسه.
خامساً:
عندما احتاج وطننا الحبيب مساعدة المرضى أيام كورونا كان الطبيب هو الضحية الأولى أمام تلك الجائحة، ولا ننسى عدد الأطباء الذين أفدوا الأردن بأرواحهم وبحياتهم وبأسرهم وسارعوا لنجدة الوطن والمواطن بينما كنّا نرى العديد من الأطباء يهربون بأنفسهم أمام تلك الجائحة في بعض الدول التي تبيع لنا مبادئ الإنسانية والتضحية، وها نحن نراهم يقدمون بإستمرار نفس التضحية لإخواننا في غزة البطلة، ألا يكفي هذا لنعلن أن الطبيب الأردني مفخرة لهذا الوطن أمام العالم كله؟؟.
سادسا:
للأسف نرى أن النيل من الطبيب الأردني والإساءة له أصبح مخططاً مشروعاً من قبل جهات متعددة ومتحالفة لها نفس الغايات وقد شاهدنا ذلك على صفحات الصحف وشاشات الإعلام من ذوي المصالح الخاصة الذين ينعتون الأطباء بأسوأ الألفاظ ويتهمونهم بالمادية الصرفة وأنهم لا يشعرون بالمريض المواطن وأن أي تعديل تعرفة الأجور بالنسبة لهم دمار لإقتصاد البلد حتى ولو أنه حصل بعد عشرات السنين من الانتظار وحتى لو كان متماشياً مع معدلات إرتفاع المعيشة، "علماً إننا لم نلاحظ ذات النبرة الناقدة والباكية على المواطن أمام الإرتفاع المستمر منذ سنوات في كل شيء سواء في السلع أو في الخدمات فأين حماة المستهلك والعمال من ذلك!!"
سابعاً:
إن إصدار التسعيرة الجديدة 2024 ليس هدفها إرتفاع الأجور كما أظهر الإعلام والجهات التأمينية ذلك، بل هو لمواكبة تطورات العصر من إجراءات جديدة ووضع ترميز طبي لكل الإجراءات إلكترونياً في زمن الأتمتة والذكاء الاصطناعي ولضبط وحصر الإجراءات جميعها في بوتقة واحدة لتسهل المعاملات على المريض والطبيب وحتى شركات التأمين وكذلك ضبط العملية الطبية بأكملها على أحدث طراز، وللعلم إن تسعيرة 2024 لا تختلف كثيراً عن تسعيرة 2008 التي أكل الدهر عليها وشرب وباتت لا تصلح إجرائياً في هذا الزمان، بل يوجد كثير من الإجراءات أقل من تسعيرة 2008، فلهذا لماذا هذا الهجوم الكاسح على الأطباء، ومن ناحية ثانية لعدم وجود ترميز إلكتروني لكافة الإجراءات وخاصةً الجديدة قد يجعل بعض الأطباء يقدّرون أتعابهم أكثر من المعقول، والتباين في أجور بعض الأطباء هو لعدم وجود الترميز المفصّل لهذه الإجراءات، وهذا قد يجعل طريق المبالغة في الأسعار أمام الطبيب مفتوحاً، ولكن بوجود تسعيرة بها ترميز كامل لكل الإجراءت يكون ذلك رادعاً لكل من يريد المبالغة بأتعابه.
ثامناً؛
لا بد من الإشارة إلى أن إلالتباسات التي حصلت أمام الإعلام كان وراءها بعض الجهات لتفرض رأيها في تقدير أتعاب الأطباء مخترقةً الحق الدستوري للنقابة في وضع التسعيرة للأطباء، فتصوروا أن الأطباء يتدخلوا برسوم أقساط المؤمنين مع شركات التأمين!!. "سؤال يطرح نفسه" هل يسمحون بذلك؟؟، علماً أننا نعلم أن تلك الجهات قد رفعت أقساطها السنوية خلال ال 16 سنة الماضية أضعاف مضاعفة ولم نجد أحدا من المتباكين على مصلحة المواطن ينتقدهم؟؟ هل من أحد كتب او طالب بمنع ذلك الارتفاع؟
وفي بعض الأحيان يكون رفع القسط التأميني بحجة أن أتعاب الطبيب قد زادت ولكن لم يصل للطبيب شيء من ذلك .
تاسعاً :
بالتأكيد أنا مع مراعاة المريض المحتاج والفقير وأن تكون أتعاب الطبيب بأقل ما يمكن، وهذا أجمل وأنقى بأن يأتي من ضمير الطبيب نفسه وليس لرغبة جهة ما أو ممن يستسهلوا على أنفسهم النقد اللاذع للأطباء، وللعلم أن كشفية الطبيب في البلدان المجاورة أكثر بكثير من كشفية الطبيب الأردني في بلد سكانها دخولهم لا شيء بالنسبة لدخل المواطن الأردني.
عاشراً:
أخيراً أطالب مواطنينا وأهل الإنصاف أن يحترموا الطبيب الأردني وينصفوه أمام هذه الهجمة الشرسة التي يتلقاها من كل حدب وصوب ويتذكروا أن لو أسعار أطباءنا غالية لما أتى إلينا المرضى من بقاع الأرض طالبين الطبابة في الأردن وهذا مفيد لكل الموطنين أن يتذكروا أن الطبيب منهم وإليهم وهو أبنكم وأخوكم وصديقكم وطبيبكم الإنساني وبلدنا صغير يستطيع المريض إختيار طبيبه الذي يريده وتأكدوا أن الغالبية العظمى من أطبائكم معكم ومستعدين للسهر على صحتكم والطبيب المخطىء والذي لا يصلح سهل عليكم اكتشافه ومعرفته
حفظ الله وطننا ومواطنينا تحت الراية الهاشمية المجيدة