وفي العاشرة أنادي: "وين العزيز اللّي"…
د. هيا الحوراني
29-11-2024 11:32 PM
سنواتٌ عشرٌ يا أبي.. "طفّى" فيها الهوى قناديلَه، وسكنَت الأيامُ وقتَ حركتِها، بعدَها أَغمضتُ عينيَّ وقلتُ وأعدْتُ مراتٍ ومراتٍ ومرات: صَباحُ الخير، ولا مَنْ قال: "يا صُباح الأناناس والبردقان أبو صُرّة"، وتذكّرتُ ما باحت به مكلومةٌ بموتِ ابن أخيها الشاب: "قاتل الله تشرين فعادتُه خطف الغوالي"، فعجبْتُ ممَّنْ حولي وقد ضربوا تشرين موعدًا لأفراحهم، حينَها أيقنتُ أنّي كفّنتُ فرحي بترابِ قبرك، ودفنتُ ضحكاتي الصافيات معك، وتبعثرت.. لملمني يا غالي..
وعلى موعدٍ بينَنا لا أُخلفُه "جيت لك ملهوف"، آوي إليكَ لا أبرحُ قبرًا تسكنُه، أبثُّك علَّتي وأَنشدُك أنْ تُطفئَ حرقةَ الوجد، ألهثُ خلفَ استقامةِ خطاك وقد عَمِيَتْ بعدَك مسالكُ الرُّشد. ولكنّي أراكَ بعينِ قلبي جنةً يا مَنْ مُرُّ الحياةِ بك يَطيب، يا سندَ النَّفسِ ومُتّكأَ الروح. وأعرفُك "يابا" طيِّبَ القلبِ ونقيَّ السَّريرة، جابرَ العظم كريمَ النَّفس "كَصَدْرِ السَّيفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى".
يقولون الحيُّ أبقى من الميت، لا تُصدقْ؛ فأنتَ الباقي والحاضر، وهم الغائبون.. وإنْ ظنّوا أنّهم أحياء ففي بعض ظنِّهم بل كلِّه إثم. فأنتَ الكفُّ التي تحملُ ولا تميل، وأنتَ السيرةُ كلُّها والتفاصيل، في حياتِك كنتَ لنا ولغيرِنا مصدرًا للإلهام، وفي موتِك صارت ذكراك نعمة، يا ضياءَ الليل ومُطْعمَ القومِ بنارٍ متَّقدة. وعزائي أنْ بقيَ من نارِكَ بعضُ جمرٍ لا رمادَ فيه ما تولَّوا يومَ طلبتُ إقبالَهم؛ لا أُفرّطُ فيهم أبدًا، سأقبضُ عليهم وسيكونون كما كنتَ عليّ.. بردًا وسلامًا.
وفي تصاريفِ الأيامِ وتقلُّبِ الأحوال لا نتبّدلُ ولا نتحوّل، وقد ورِثنا منك شرفًا وعزّة، نسيرُ على خطاك ولا نتجاهلك، وكيفَ لنا هذا وأنتَ الحاضرُ فينا أبدًا، لا نقبلُ أنْ يتغيّرَ نهجُك،
نسيرُ دربًا واضحًا ولو كانَ وعِرًا، أنتَ فيه نبراسُنا المضيء، وطريقُنا دونَه مظلم. نسيرُ ولا نتكِّئُ على من نفضْتَ يدَكَ منهم، فليس من الجَرْيِ معهم أو وراءَهم إلاّ التّيه، عشتَ عزيزًا ومضيْتَ عزيزًا، لم تهادنْ ولم تتلوّن؛ عاشرْتَ بوفاء، وصادقْتَ بإخلاص، المبدأُ عندَك:
"صاحبي مالي بصدَّهْ،
صاحبي روحي عرينَهْ،
ولو نصاني والنواصي فوق قبري
أدعي الله إني أحيا لأجل أعينه"
لكنْ، عندما عافتْ نفسُك بعضَهم ممَّنْ خذلوا وخانوا ووجّهوا ركائبَهم عنك، خلَّيْتَ لهم وجْهَ الفراق.. وما كنتَ مطيّةَ أيّ رحّالٍ ومتقلّبٍ منهم.. خاصمْتَ بشرف، وصمَتَّ عنهم صمْتَ السّادة، ولم تقبل الحلولَ الوسط، وانقطعت عنهم بلا عودة، فكانَ الصدرُ مكانَك وسيبقى، ونحن بعدَك لا نعود، وفي غيرِ طلبِ المعالي نفوسُنا لا تهون.
وبعدَ سنواتٍ عشرٍ طِوال ما ألِفتُ فيها غيابَ أبي ولا اعتدتُ عليه، لم يتبقَّ غيرُ ذاكَ العطر الذي لا يفارقُ ثيابَك التي أحتفظُ بها، وكأنّي أمضي في هذه الحياة بعبيرِ هذه الرائحة.. تلفُّني وتحيطُ بي فيحلُّ في نفسي بعضُ أمانٍ أبحثُ عنه في غيابك، أُناديكَ وبي ظمأٌ لا يرويه إلاّ حضورُك، أُناديكَ وبي شوقٌ لا يطفئُه إلاّ بردُ قربِك، أُناديكَ وبي خوفٌ لا يبدّدُه إلاّ أمانُ حضنِك ودفءُ يديك. فغيابُك أذاقنا كأسَ الفراق المُرّة، وسلبَ طمأنينتَنا وجعلَنا نعيشُ في حذرٍ مخيفٍ مِنَ الأيام.. ومع أنّك كنتَ تلزمُ سريرَك وقد أتعبتْك جلساتُ غسيلِ الكلى لم يكن الخوفُ يتسلَّلُ إلى قلبِ أحدٍ منّا؛ فأنتَ –دونَ غيرِك- الحَرَمُ والحمى الذي نأوي إليه، وعندَ خشيةِ الضلالِ والخطأ أنتَ –دون غيرك- النجمُ الذي نهتدي بضيائه "إذا حالَ مِنْ دونِ النجومِ سحابُ". أمّا أنا ولأنَّكَ منحْتَني صكًّا دونَ شروط أنْ يكونَ قولي وفعلي "على كيفي" كُنْ مطمئنًا يا أبي؛ سأصونُك وأصونُ نفسي، وسأبقى على عهدِك بي لا أجاملُ بالحق ولا أَلينُ في موْضعِ الحزْم، وإنّني "بنت أبوها" محلُّ فخرِك في الدّاريْن.
وبقيَتْ أُمّي يا أبي أمانتُكَ في أعناقِنا.. وستبقى.. رَيْحانةَ القلبِ وسنديانةَ العمرِ التي حولَها نلتفّ.. ركنُ بيتِنا الأصيل وقِبلتُنا الأولى.. هي تكبيرةُ الإحرامِ: عندها يبدأُ كلُّ أمرٍ وبها ينعقد، فلا يصحُّ دونَها، بيْنَ يديْها فقط جلالُ البدايات، وفي رضاها المنشود بركةُ النِّهايات.. يصلُنا من نبضِ قلبِها المتسارع خوفًا علينا صادقُ الدَّعوات.
ومَرَّةً تِلْوَ مرّة، وسنةً بعدَ سنة والغصّةُ هي الغصّة.. أبحثُ عن أبي، عن "أبو زيد" الكبير، واسطِ القلبِ وشريانِ الحياة، "أبو زيد" الكبير، راجحِ الرأي وميزانِ الصواب، وأنادي:
"وين العزيز اللّي خذا الطِّيب كِلَّهْ
وين الصديق وين ذاك الإنسانْ
وين الذي لا حدّثك ما تِملَّهْ
يِحْلى معه جوّ الونس وين ما كانْ"
ليتَكَ يا موتُ رفقْتَ بي ولم تحكمْ عليَّ بفراقِ روحِ الروح الذي رجوْتُ بقاءَه و"قد عذَّبَني طولُ الرجاء".. أمَا وقد حكمت؛ فسأبقى معَ صورتِه وذكراه أبكي "راعي الفزعات"، مَنْ عاشَ عزيزًا ومات عزيزًا، أبكي مَنْ لا شبيهَ له على مَرِّ الزمان، أبكي مَنْ أحنُّ إليه أبدًا، له عهدُ الوفاء بما أكرمني أنْ كنتُ امتدادًا لعِرْقِه نُبْلاً وأصالةً وسُمْرَةَ وجْه، وعليه مني سلامٌ وسلامٌ وسلامْ.