جغرافيا «الحراك» السوري وخريطته السياسية
عريب الرنتاوي
01-06-2011 05:19 AM
في مقالته عن «جغرافيا التظاهر والاحتجاج في سوريا» أمس الأول في الحياة، وصف الكاتب والمناضل السوري الصديق القديم فايز سارة، حركة التظاهر والاحتجاج السورية، بأنها «حركة الهوامش الحضرية والريفية اساسا»...وهذا ما كنّا أشرنا اليه في أكثر من مقال سابق، وإن كنا طرحناه على شكل أسئلة عن الأسباب التي تجعل بلدات ريفية، يصر الإعلام على تسميتها بـ «المدن»، مثل تلكلخ وأزرع والرستن وسقبا وتلبيسة، تتصدر صفوف حركة الاحتجاج والتظاهر في سوريا، وفقاً لتوصيف سارة، أو الثورة والانتفاضة السوريتين وفقاً للخطاب الإعلامي الدارج... وفي ظل صمت شبه كامل، لمراكز الحواضر الكبرى، كدمشق وحلب، والتي يصدف أنها ذات غالبية سنيّة كذلك، ما يجعل السؤال أو التساؤل، مضاعفاً من حيث إلحاحيته وراهنيته.
سارة تحدث عن اتجاهين في حركة الاحتجاج: الأول، إنطلق من مراكز «المدن الطرفية» إلى القرى المحيطة بها، وهنا تنتصب درعا كنموذج لهذا الاتجاه، وهو نموذج تكرر لاحقاً في حمص واللاذقية وحماة وإدلب ودير الزور...أما الاتجاه الثاني، فهو انتقال الحركة من الأطراف والضواحي المهمّشة إلى قلب الحواضر المدنية، وهنا يمكن الإشارة إلى دمشق على سبيل المثال، التي تلقت بهدوء نسبي ظاهر، أنباء التظاهرات في ضواحيها القريبة مثل دوما وعربين والزبداني والمعظمية ودرايا والكسوة، وكذا الحال بالنسبة لحلب.
الطابع «الطرفي» و»الريفي» المُميز لـ»حركة الاحتجاج والتظاهر» في سوريا، يرده فايز سارة إلى سببين اثنين...الأول، ويتمثل في التهميش الاقتصادي والاجتماعي لهذه المناطق، حيث يتفشى الفقر والبطالة والبؤس والجوع، وحيث الدولة تظهر قليلاً من الاهتمام بحياة أبنائها ومواطنيها...أما السبب الثاني، فيعود إلى ضعف القبضة الأمنية للنظام على الأطراف، وإمساكها بتلابيب المراكز المدنية والحضرية، حيث أثبتت أن بمقدورها أن تحصي على أبنائها أنفاسهم، وتحول بينهم وبين الشوارع والساحات والميادين...أي أن الفقر والجوع والبطالة والتهمش، مشفوعة بضعف في التركز الأمني، هما السببان اللذان منحا «الانتفاضة السورية» صورتها الطرفية» ومضمونها «الريفي».
بهذا المعنى، تبدو «الثورة السورية»، وعذراً على الاستخدام العشوائي للمصطلحات والتوصيفات التي نطلقها على الحدث السوري، أقول بهذا المعنى تبدو الثورة السورية متفقة ومختلفة مع ثورتي مصر وتونس...هناك أيضاً كان «الاقتصاد» قاطرة التاريخ وشرارة الثورة...لكن الثورة والثوار سرعان ما تخطوا الاقتصادي إلى السياسي والاجتماعي إلى الحقوقي والديمقراطي المتعلق بجوهر النظام السياسي، فهل هذا ما حصل أو يحصل في سوريا اليوم ؟.
في مصر وتونس، أمكن إحداث الربط والترابط بين الكفاح المطلبي والاقتصادي والاجتماعي، بالنضال في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وكرامته، وسيادة الاوطان واستقلالها...وأمكن ذلك بفضل انتقال شرارة الثورة سريعاً من الأطراف إلى المركز (في الحالة التونسية)، أو لأن الثورة انطلقت من قلب المركز أساساً (التجربة المصرية)...هنا تتفارق الثورة السورية مع شقيقتيها اللتين سبقتاها في تونس ومصر.
في مصر وتونس، يمكن الحديث عن «الطبقة الوسطى» و»البرجوازية الصغيرة والمتوسطة» بلغة «ماركسيي أيام زمان»، بوصفها القوى الاجتماعية المحركة للثورة والحاضنة لها...حتى وإن لم تكن هي بذاتها القوى «المفجرة لشعلتها وشرارتها الأولى»، في حين تبدو القوى الفلاحية والهامشية، أشباه الفلاحين وأشباه العمال وأشباه العاملين بأجر وصغار الكسبة، هم وقود الثورة وهم مفجروها وقادتها وقوة دفعها الرئيسة، وعلينا أن نتريث لكي نعرف كيف ستتفارق وتتوافق، ثورة مدينية، بقيادة الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة، مع ثورة ريفية، بقيادة قوى مهمشة إجتماعياً.
فايز سارة، في معرض سعيه لتفسير «صمت الشام وحلب» النسبي طبعاً، ذهب إلى القول بأن تركز القبضة الأمنية في هذه المراكز، جعل من انتقال «حركة الاحتجاج والتظاهر» إليها أمراً صعباً للغاية...الحل الأمني نجح في منع اندلاع الثورة في المدن الكبرى، ولهذا يجري الرهان عليه، في اجتثاث الثورة واستئصال شأفتها من الأرياف والأطراف أيضاً، هذه هي الخلاصة التي يستنتجها القارئ، من دون أن يقولها فايز سارة صراحة...هنا ما زلنا بحاجة لمعرفة ما إن كان «الحل الامني» في سوريا، سينجح في وأد «حركة الاحتجاج والتظاهر» أم أنه سيواجه مصيراَ مشابهاً لما واجهه «الحل الأمني» في مصر وتونس.
كثيرٌ مما تضمنته مقالة فايز سارة، كنّا نعرفه ونخمّنه...هو أفادنا بمزيد من التفاصيل المهمة حول حراك الهجرة الداخلية والخارجية، والتكوين السكاني لجغرافيا الاحتجاج والتظاهر...لكن الأمر الذي لم نعرفه بعد، وليس هناك الكثير من الكتابات بشأنه، يتصل أساساً بـ»الخريطة السياسية لحركة الاحتجاج والتظاهر»...أية قوى تحرك «الأطراف والأرياف» التي أخذت على عاتقها تفجير الثورة وإدامتها كل هذا الوقت...ما صحة ما يقال عن «نفوذ سلفي» في هذه المناطق، هل هي دعاية «سلطوية» أم أن السلفيين في سوريا ينجذبون إلى «الأطراف» شأنهم في ذلك شأن أخوانهم وزملائهم في العالم، ولا ينتعشون إلا في مناخات «التهميش» و»الترييف» و»البدونة» ولا ينغرسون إلا في البيئة القبائلية.
ماذا عن «إخوان سوريا المسلمين»، هل هم قوة مؤثرة في هذا المشهد...أين يتمظهر دورهم، وهم تاريخيا حركة مدنية، أقرب ما تكون للطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة...ماذا عن أدوار القوى غير الدينية ماذا عن المجتمع المدني السوري الذي بالكاد نسمع عنه...أم أن التعددية في سوريا تكاد تستنسخ تجربة التعددية «المتمذهبة» و»المتطيّفة» كما تتجلى في عدد من البلدان العربية؟؟؟
نحن بحاجة لنعرف أكثر عن الخريطة السياسية لـ»حركة الاحتجاج والتظاهر»...فالرواية الرسمية لا تعترف أصلا بوجود هذه الحركة، وتكاد تختزلها في مجموعة «المجرمين» و»رجال العصابات» و»القتلة»...وروايات الفضائيات إياها، تكاد تقيم تماثلا بين شعارات هذه الحركة من جهة وأنبل ما أنجبه الفكر الإنساني من قيم الحرية والعدالة والإخاء والمساواة..أما الرواية الواقعية، فهي ما زالت غائبة، وإن كنا قد بدأنا نقرأ ملامحها في قليل من الكتابات السورية الموضوعية، ومن ضمنها كتابات فايز سارة.
الدستور