بين جاهليتين: حديثة تتعرى وقديمة تستر
د. هاني الضمور
28-11-2024 08:41 AM
في زمنٍ تُرفع فيه الشعارات البراقة للحضارة والتقدم، باتت القيم الأخلاقية تُدفن تحت ركام التقنية والحداثة. وفي مفارقةٍ لافتة، حينما نعود إلى الجاهلية الأولى، التي وصفها القرآن الكريم بأنها “ضلالة” و”عمى”، نجد أن لها منظومة أخلاقية تحفظ ماء الوجه وكرامة الإنسان، منظومة افتقدتها الجاهلية الحديثة رغم زعمها التمدن والتطور.
القرآن الكريم حين تحدث عن الجاهلية الأولى، رسم مشاهد واضحة لواقعهم: “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ” [النحل: 58]. ومع ذلك، ورغم بشاعة وأد البنات، نجد أن ذات المجتمع كان يمتلك قيمًا تمنعهم من هتك الستر أو انتهاك الخصوصيات. ففي حادثة محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، امتنع كفار قريش عن اقتحام بيته ليلاً رغم عداوتهم، خشية أن تُقال عنهم كلمة واحدة: “هتكوا ستر بنات محمد”.
هذا السلوك لا يُفهم على أنه إيمان أو تقوى، بل هو امتثال لمنظومة قيمية فرضها المجتمع آنذاك. كانت الأخلاق قاعدة، والسمعة أمانة، والمروءة حصنًا يحمي كرامة الإنسان. حتى أشد خصوم النبي، كأبي جهل وأبي سفيان، خضعوا لهذه القيم خوفًا من العار، وليس إيمانًا بالله.
لكن ماذا عن جاهلية اليوم؟ جاهلية الحداثة؟ جاهلية ترى في الحريات شعارًا، لكنها تدوس على حرمات البيوت وخصوصيات الأفراد. جاهلية لا تُفرق بين القيم والمصالح، وتبرر الجرائم بالحضارة والتقدم. يقول الله تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ” [الجاثية: 23]، وكأن هذا الوصف ينطبق تمامًا على واقعنا اليوم، حيث باتت الأهواء تحكم، والمال يبرر، والقوة تُبيح كل انتهاك.
إن الجاهلية الحديثة، رغم كل ما تملكه من مظاهر التقدم، لم تستطع أن تحافظ على أبسط المبادئ الأخلاقية التي كانت قائمة في الجاهلية الأولى. أصبحنا نرى الحروب تُشن بلا رادع، والبيوت تُهدم بلا مروءة، والأعراض تُنتهك بلا حياء. مجتمعاتٌ تتفاخر بالعلم والتقنية، لكنها تقف عاجزة أمام سؤال الأخلاق.
القرآن الكريم رسم طريق الخلاص لهذه المجتمعات منذ قرون، حينما قال: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ” [النحل: 90]. فالعدل أساس كل بناء اجتماعي، والإحسان روح التعامل الإنساني. أما الفحشاء والمنكر، وهي السمة الطاغية على جاهليتنا الحديثة، فهي ما يؤدي إلى هدم القيم وتحلل الأخلاق.
إن جاهلية اليوم تحتاج إلى أن تتعلم من القرآن كيف تقيم بناءً أخلاقيًا يحفظ كرامة الإنسان قبل أن تتغنى بمظاهر التقدم. فالتقنية بلا قيم تصبح أداة تدمير، والقوة بلا عدل تصبح ظلمًا، والحضارة بلا أخلاق تصبح جاهلية جديدة، لكن بثوب حديث.
ختامًا، لو رأت الجاهلية الأولى حالنا اليوم، لربما استغربت من حجم الانحدار الأخلاقي رغم زعمنا أننا أكثر تطورًا. جاهلية قديمة كانت ترى الستر قيمة، والعار سيفًا، بينما جاهلية حديثة تتباهى بالفضائح، وتستر الظلم بالشعارات. إن الفرق الحقيقي بين جاهلية الأمس واليوم هو في فقدان البوصلة الأخلاقية، والبقاء بعيدًا عن نور الهداية الإلهية، التي قال عنها الله: “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ” [المائدة: 15].