بين دروس قصة يوسف عليه السلام وواقع الترف والبذخ في العالم العربي
في عالمنا اليوم، تتكرر قصص الإنسان مع النفس والسلطة، ويمتزج صراع القيم مع نزعات البشر نحو السيطرة، الترف، والشهوات. ما بين قصة يوسف عليه السلام التي جسدت مواجهة عظيمة بين التزكية والإغواء، وما نراه اليوم من واقع عربي مشحون بالتناقضات، يبقى السؤال الأساسي حاضرًا: كيف توازن المجتمعات بين القيم الأخلاقية واستخدام النفوذ والثراء.
قصة يوسف عليه السلام تقدم نموذجًا خالدًا لهذا الصراع. زوجة الحاكم، زُليخة، حاولت استخدام سلطتها ونفوذها للإيقاع بيوسف عليه السلام، مستغلة شهواتها وموقعها الاجتماعي لتحقيق أهدافها. وبرغم ذلك، قدم يوسف درسًا لا يُنسى في ضبط النفس وإعلاء القيم، رافضًا الانصياع رغم التهديد بالسجن. قال الله تعالى: “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ” (يوسف: 33)، ليؤكد أن تزكية النفس هي الحصن الوحيد أمام نزعات النفس البشرية. لكن، وبعد أن اختبر يوسف الظلم، تولى السلطة لاحقًا، ليكون نموذجًا مغايرًا تمامًا، حيث وظف نفوذه في الإصلاح والعدل، وليس في الإفساد.
اليوم، نجد في الواقع العربي أصداء لهذا الصراع الأزلي. عواصم عربية تحتفي بالترف والبذخ، حيث تُنفق الملايين على مهرجانات وحفلات لا تتجاوز مدتها دقائق معدودة، بينما تعاني شعوب أخرى، مثل أهل غزة، من الجوع والحصار. هذا التناقض الصارخ يعكس غياب القيم الإنسانية، حين يُستهلك المال في مظاهر ترفٍ جوفاء، بينما يقف الفقراء على حافة العدم.
القرآن الكريم حذر من هذا الترف الذي يقود إلى الهلاك، فقال تعالى: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” (الإسراء: 16). المترفون هم من أفسدهم المال، وأداروا ظهورهم لمعاناة المظلومين والمحتاجين. بينما تُصرف الأموال على الحفلات الباذخة، يموت الأطفال في غزة من الجوع، وتُهدم بيوت الفقراء، وتُسلب حقوق المظلومين.
بعض المدافعين عن هذا البذخ يرونه وسيلة لجذب السياحة وتحقيق الشهرة، لكن يبقى التساؤل: هل تُبرر السياحة تجاهل معاناة الآخرين؟ وهل يقبل الله هذا الإسراف الذي لا يخدم أي قيمة حقيقية؟ القرآن يضع أمامنا معيارًا واضحًا للإنفاق المقبول، إذ قال تعالى: “وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” (البقرة: 195). التهلكة هنا ليست فقط في الفساد المالي، بل في البعد عن القيم التي تجعل من المال وسيلة للرحمة والإصلاح.
إن الترف الذي نشهده اليوم في بعض العواصم العربية يعكس خللًا عميقًا في القيم الروحية، حيث يغرق البعض في حب الدنيا، متناسين المسؤولية الكبرى تجاه شعوبهم وإخوانهم في الإنسانية. قال الله تعالى: “ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” (التكاثر: 8). النعيم ليس للتمتع الفردي فقط، بل هو أمانة سنُسأل عنها يوم القيامة: هل استُخدمت لنفع الناس؟ أم أُهدرت في مظاهر استعراضية لا قيمة لها؟
عندما نقارن بين ما عاشه يوسف عليه السلام من محن وبين هذا الواقع، ندرك أن المشكلة ليست في المال أو السلطة بحد ذاتها، بل في كيفية استخدامها. يوسف استغل سلطته لخدمة الناس، بينما نرى اليوم كيف يُستخدم المال والنفوذ في تهميش معاناة الآخرين.
المطلوب منا اليوم أن نستعيد تلك القيم التي أمرنا الله بها، أن نُطعم الطعام للمحتاجين وندعم المظلومين، كما جاء في قوله تعالى: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” (الإنسان: 8). غزة ليست بحاجة إلى مهرجانات فاخرة، بل تحتاج إلى دعم حقيقي يعيد الكرامة لأبنائها. الترف الذي نعيشه اليوم هو اختبار لإيماننا وإنسانيتنا، وإن لم نستجب لهذا الاختبار، فستكون العواقب وخيمة.
إن قصة يوسف عليه السلام وما يرافقها من دروس، تقف كمرآة لواقعنا اليوم. من جهة، هناك من يزكي نفسه ويستخدم سلطته لإصلاح المجتمعات، ومن جهة أخرى، هناك من يغرق في الترف والبذخ، متجاهلًا قضايا أمته. بين هذين النموذجين، يحدد كل فرد وكل مجتمع مكانه على ميزان القيم الإلهية، وما أكثر العبر لمن أراد أن يعتبر.