صرخةٌ ضد الفساد .. وصمتٌ أمام بَريق المناصب
محمود الدباس - ابو الليث
26-11-2024 12:32 PM
في زحام الشعارات الرنانة والخطابات المجلجلة التي تتحدث عن محاربة الفساد واجتثاثه.. تقف شخصيات تحمل لواء الطهارة والاستقامة.. تصرخ بملء حناجرها أن الفساد ينخر عظام الوطن.. وأنهم جنود العدالة والإصلاح.. ومع ذلك حين تلوح أمام أعينهم بارقة منصب أو كرسي نفوذ يتحول المبدأ إلى حبرٍ على ورق ويتبدد الصراخ إلى صمتٍ خجول أمام مغريات السلطة..
كم من مرة سمعنا أولئك "الفرسان" يعلنون استنكارهم للفاسدين وأعمالهم.. مدّعين أنهم لن يخونوا أمانة المبدأ الذي أعلنوه؟!.. وكم من مرة توعدوا أن يرفضوا كل منصب حتى لو رئيس حكومة.. إذا كان مشروطاً بالبقاء ضمن منظومة يرونها متورطة حتى النخاع؟!.. ولكن حين طُلب منهم شغل كرسي وزارة.. أو أن يكونوا مستشارين على طاولة القرار.. انقلب الحال.. وارتدى الوجه قناعاً جديداً.. قناع القبول والصمت المريب..
بحثت عن نظرية في علم النفس.. لعلني اجد فيها ما يشرح حال هؤلاء.. فلم اجد واحدة.. بل وجدت -للأسف- عدة نظريات مترابطة ومجتمعة لكي نستطيع من خلالها ان نتعرف على حقيقتهم..
فهذا التناقض يمكن تفسيره بنظرية التنافر المعرفي في علم النفس.. والتي تشير إلى أن هؤلاء الأفراد.. يشعرون بعدم الراحة النفسية.. حين تتعارض أفعالهم مع قناعاتهم المعلنة.. وللتغلب على هذا الشعور.. يلجؤون إلى تبرير أفعالهم بذرائع مثل "إصلاح النظام من الداخل".. رغم أنهم يدركون جيداً.. أن القبول بالمنصب.. يجعلهم جزءاً من ذات المنظومة التي نددوا بها. ويضاف إلى ذلك ما توضحه نظرية القناع الاجتماعي.. حيث يتعمدون إظهار وجه مختلف أمام الجمهور.. يرتدون قناع البطولة والشرف.. لكنه يسقط بمجرد أن تتحقق مآربهم الشخصية..
الأدهى من ذلك.. أنهم يتكئون على أكتاف أناس سُذجٍ.. صدّقوا كلماتهم المسمومة.. وسوّقوهم على أنهم أبطال لا يُقهرون.. ويتناقلون رسائلهم ومقاطعهم عبر الصفحات.. فما كان من هؤلاء إلا أن جعلوا من تلك الأكتاف سلّماً "يتشعبطونه" للوصول إلى غاياتهم.. تاركين خلفهم من آمن بهم تحت وطأة الخيبة والانكسار.. متسائلين.. كيف تحول المدافع عن الحق إلى متواطئ في الباطل.. كما كان يقول ويصف؟!..
هذه الظاهرة ليست محصورة بمكان أو زمان.. بل هي مشهد متكرر في كل مجتمع يبحث عن الإصلاح الحقيقي.. لكنها للأسف تظل لعنة تنخر ثقة الشعوب بأمثال هؤلاء.. وتؤدي إلى تشكيك عام في كل من يرفع راية مكافحة الفساد.. فكيف لهؤلاء أن ينظروا إلى أنفسهم في المرآة؟!.. هنا.. تتقاطع نظرية التنافر المعرفي مع نظرية القناع الاجتماعي.. إذ يكافح هؤلاء لتبرير تناقضاتهم أمام أنفسهم.. وأمام الناس.. مدعين أنهم يفعلون "ما يلزم" لأجل المصلحة العامة.. ولكن المرآة لا تخدع.. فهي تعكس لهم قبحاً يدركونه جيداً..
وكيف يتجرأون على مواجهة الناس بعد أن انفضحت تناقضاتهم؟!.. بل كيف يتحدثون عن المبادئ أمام جمهور يرصد تناقضهم بين الأقوال والأفعال؟!.. هذا السلوك يمكن تفسيره كذلك من خلال نظرية النرجسية.. التي تشير إلى أن بعض الأشخاص ينشغلون بصورتهم أمام الآخرين.. أكثر من انشغالهم بمبادئهم.. فهم يسعون دائماً لتضخيم الذات أمام الجمهور.. ولو كان ذلك على حساب القيم التي يدّعونها..
يبقى السؤال العميق.. هل يدرك هؤلاء أنهم ليسوا فقط خونة لمبادئهم المزعومة بل إنهم مشاركون في تعميق أزمات مجتمعاتهم عبر تشويه معنى النزاهة والإصلاح الحقيقي والسعي الصحيح له؟!.. أم أن السلطة تخدر الضمير وتجعل الإنسان يرى في انعكاسه وجه شخص آخر.. شخصاً لا يعترف بالخيانة؟!.. هنا يظهر ركوبهم لنظرية الازدواجية الأخلاقية التي تفسر كيف يمكن لبعض الأشخاص الفصل بين مبادئهم المعلنة وسلوكهم الفعلي.. معتقدين أن الظروف والمواقف تبرر كل شيء حتى خيانة أنفسهم.. ومَن وثق بهم..