الأحزاب .. الطريق إلى استحقاق سياسي أكثر نضوجًا
حسن رواشدة
24-11-2024 03:16 PM
مع انتهاء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تدخل الحياة السياسية في الأردن مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص على مدار الأربع سنوات المقبلة، الأحزاب السياسية، سواء تلك التي نجحت في الوصول إلى البرلمان أو تلك التي فشلت في تجاوز العتبة الانتخابية، تقف اليوم أمام اختبار حاسم يتعلق بقدرتها على إعادة بناء وجودها، صياغة برامجها، وتعزيز حضورها الشعبي استعدادًا لاستحقاقات سياسية مقبلة، خاصة في ظل زيادة حصة القائمة الوطنية في البرلمان المقبل.
لكن هذه المرحلة ليست مجرد انتظار انتخابات جديدة؛ وهو ما يستدعي قراءة أعمق للتجربة الانتخابية الأخيرة وتحليلًا معمقًا للدلالات السياسية والاجتماعية للأرقام.
الأحزاب التي استطاعت حصد مقاعد برلمانية تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ كبير يتمثل في إثبات جدوى وجودها كمؤسسات سياسية ذات تأثير حقيقي على الحياة العامة. هذه الأحزاب مطالبة بتقديم نموذج برلماني جديد يتجاوز الصورة التقليدية للأداء النيابي القائم على الجدل النظري أو خدمة المصالح الفردية.
لا يمكن للأحزاب الاكتفاء بدور الوسيط بين الناخب والدولة؛ بل عليها أن تصبح شريكًا في صنع القرار الوطني. وهذا يتطلب أدوات جديدة، أبرزها التشريع النوعي من خلال صياغة قوانين تلبي احتياجات المواطنين وتحاكي أولوياتهم، والمساءلة الحقيقية من خلال تعزيز أدوات الرقابة البرلمانية بطريقة تعكس التزام الأحزاب بالدفاع عن حقوق المواطنين.
الصورة اليوم مختلفة؛ نسب الإقبال المنخفضة كشفت عن فجوة بين المواطن والمؤسسة السياسية، وهي فجوة تحتاج الأحزاب الممثلة في البرلمان إلى معالجتها ليس فقط عبر الأداء البرلماني، بل من خلال تعزيز الحضور المجتمعي.
أما الأحزاب التي لم تتمكن من دخول البرلمان، فهي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما إعادة الهيكلة الجذرية أو الاندثار. هذه الأحزاب بحاجة إلى مراجعة شاملة لبرامجها وأهدافها التنظيمية، والبحث عن طرق جديدة للتواصل مع الشارع الأردني.
يشهد الأردن اليوم عددًا كبيرًا من الأحزاب، معظمها يفتقر إلى قاعدة شعبية حقيقية. يجب على هذه الأحزاب التفكير جديًا في الاندماج مع كيانات أخرى ذات برامج متقاربة لتشكيل أحزاب أكبر وأكثر تأثيرًا. بالإضافة الى ضرورة النزول إلى الشارع والتفاعل المباشر مع القواعد الشعبية. الأرقام الأخيرة للانتخابات تشير إلى عزوف واضح عن التصويت، وهي دلالة على أن الخطاب الحزبي لا يزال بعيدًا عن هموم المواطن اليومية.
اليسار الأردني يمثل النموذج الأبرز للأزمة التي تعانيها الأحزاب السياسية في البلاد. فقد أخفقت الأحزاب ذات التوجه اليساري في الانتخابات الأخيرة في تحقيق حضور يوازي تاريخها أو شعاراتها. هذه الإخفاقات لا تعكس فقط أزمة برامجية، بل أزمة وجودية تتعلق بفقدان اليسار لصلته بالشارع الأردني. إذا أرادت أحزاب اليسار استعادة مكانتها، فعليها التخلي عن الخطاب النظري والتركيز على القضايا اليومية التي تشغل المواطن.
التاريخ يقدم أمثلة على قدرة الأحزاب اليسارية على إعادة بناء نفسها في ظروف مشابهة. التجربة الأوروبية، وخاصة حزب العمال البريطاني في التسعينيات بقيادة توني بلير، تظهر أن التحول من الخطاب الإيديولوجي إلى الخطاب البراغماتي القائم على تقديم حلول عملية يمكن أن يعيد تشكيل حضور اليسار.
نجاح الأحزاب في تقديم نموذج سياسي مختلف خلال السنوات الأربع المقبلة قد يكون العامل الحاسم في إعادة ثقة المواطن بالعملية السياسية. التاريخ لا ينتظر المترددين، والأحزاب التي تدرك هذا الدرس هي وحدها القادرة على قيادة التحول السياسي الذي ينتظره الأردنيون.