قبل سنوات طويلة، كنا نسمع ونقرأ شعارات وخطابات عن ضرورة أن نأكل مما نزرع، وأن نلبس مما نصنع. وكانت أدبياتنا السياسية، وليس الزراعية، تحتوي خطابا حول الأمن الغذائي، لكن هذا الأمن الغذائي تحول إلى اسم شركة وليس استراتيجية. وهذا الأمر ليس فقط في بلادنا، بل ربما في أقطار عربية أخرى.
لن نتحدث أيضا عن القمح وزراعته وضرورة أن نمتلك وسائل لزيادة إنتاجه، ليس لأن الأمر غير ممكن أو لأنه غير مهم، بل لأن الجهود في هذا المجال لا تحقق الكثير. واليوم نشعر بالفرح عندما نرى "بيدر" قمح في عمان، وكأننا نشاهد مسلسلا تراثيا أو نزور مكانا فيه مهباش وخرج وسيف. وكم هو مفرح منظر الأرض المزروعة حول الطريق الجديدة التي تم افتتاحها قبل أسابيع، ويربط بين شارع المطار والدوار الرابع، حيث نجد بيادر القمح و"شلايا الحلال". وذات المشاهد النادرة نشاهدها في بعض مناطق عمان، أما في المحافظات فقد زحفت العمارات على الأرض الزراعية.
القمح سيصبح بعد عقود قليلة عملة نادرة في بلادنا، فلا نراه إلا في الحاويات التي تحملها السفن من دول العالم. وسيصبح مادة مستوردة مثل أجهزة الخلوي وقطع السيارات ومكياج السيدات وربطات العنق والثلاجات، لأن مزارعي القمح يتناقصون كل عام، والأرض تتحول إلى بيوت وأشجار زيتون.
سنغادر القمح إلى ما هو أسهل، وهو الثوم؛ المادة التي نستعملها وربما لا نشعر أنها قضية. لكن الثوم، لمن لا يعلم، إحدى المواد التي نقوم باستيرادها من الخارج، وتحديدا من الصين. وعندما نستمع إلى أحد مسؤولي وزارة الزراعة في إحدى وسائل الإعلام، نشعر بالدهشة التي تسببها الأرقام. فنحن نستهلك ما بين 36-40 ألف طن من الثوم سنويا، أما إنتاجنا الوطني من الثوم فلا يتجاوز 4 آلاف طن سنويا، أي أننا نستورد ما بين 32-36 ألف طن من الأصدقاء من الصين.
وإذا كان القمح وزراعته أمامهما عقبات استراتيجية، فلماذا لا نجد أمامنا إنتاجا يكفينا من الثوم؟ ولماذا لا يكون هناك توجيه وتعاون بين المزارعين ووزارة الزراعة لتوفير نصف حاجتنا من الثوم مثلا، بدلا من النسبة المتواضعة التي لدينا اليوم؟
والقصة ليست مع الثوم فقط، بل مع منتجات أخرى لا تحتاج إلى استراتيجيات وخطط بعيدة المدى أو ورش عمل أو دورات تدريبية. وربما لو سألنا وزارة الزراعة لوجدنا سلعا أخرى نستوردها من الخارج مع أن وجودها في بلادنا بكميات أكبر أمر ممكن وسهل لو توفرت الإرادة والعمل الجاد لإنتاجها. فالاستيراد يعني عملة صعبة تدفعها الدولة من مخزونها للدول المصدرة، والاستيراد يعني أن "قدحة الثوم" على البامية أو الملوخية تحتاج إلى ملفات من المعاملات التي تكفل وصول الثوم من الصين إلى بلادنا.
عندما نصف مجتمعنا نقول إننا مجتمع زراعي، فهل يمكن أن نصل إلى مرحلة ننتج فيها ما يكفينا أو نسبة كبيرة من مواد بسيطة وسهلة الإنتاج محليا؟ ولن نكون مبالغين أو خياليين عندما نطالب بهذا، فنحن لا نتحدث عن أمن غذائي أو عن اكتفاء ذاتي، بل عن سياسة زراعية تخص البصل والثوم، وربما البقدونس والجرجير.
(الغد)