طريق الجِمال في عمان هل هو واد الرمم؟
مصطفى القرنة
22-11-2024 10:30 PM
في قلب عمان القديمة، هناك طريق يروي قصصاً غابرة، يقف شاهداً على حضاراتٍ متعاقبة. هذا هو طريق الابل ، الذي كان فيما مضى الشريان الحيوي الذي يربط بين الحياة والموت، بين العيش والتجارة، بين الطمأنينة والخوف. يذكره العمانيون والأجانب على حد سواء، ولكن قلة منهم يعرفون الحقيقة الكامنة وراءه.
يقال إن هذا الطريق هو ذاته واد النصر أو واد الرمم الذي كانت تعبره القوافل، وتستقله الجِمال في رحلة طويلة مليئة بالتعب والمشاق، وهي تَسير إما إلى المسلخ أو إلى وجهات أخرى مجهولة، كانت تحمل فيها البضائع، والأحلام، والأسرار. ولا يزال هذا الطريق يحتفظ بذاكرة عميقة من أيامه القديمة، حيث مر به بني عمون، واليونان، والرومان الذين سافروا على متن عرباتهم، ونقلوا الحجارة لبناء المدرج الروماني الذي لا يزال يقف في منطقة قريبة، شاهداً على عظمة تلك الحضارات.
أما في تلك الأيام البعيدة، فقد كان المارون على هذا الطريق يشهدون لحظات من التاريخ التي لا تُنسى. كانت الحيوانات المفترسة تتجه إلى عين غزال لتشرب الماء، بينما تتناثر على جانبي الطريق آثار المعارك القديمة، وكأن الزمن ينسج من هذه الجراح حكاية لا تنتهي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يدرك المارون اليوم أنهم يمشون على ذات الأرض التي شهدت تلك اللحظات التاريخية؟ هل يعرفون أن الطريق الذي يطأونه اليوم كان شاهداً على معارك وحروب، وتجار وحرفيين، وفاتحين ومستعمرين؟ وهل يدركون أن هذا الشارع كان يوماً ما مسرحاً لصراع بين القوى العظمى؟
وإذا تراجعنا في الزمن، سنجد أن هذا الطريق قد خدم مسارًا طويلاً عبر العصور. في فترة الاحتلال العثماني، كان هذا الشارع يحمل وزر المعارك الكبرى. وقد ورد في الأرشيف الأسترالي، أن طريق الجِمال كان يُعرف بهذا الاسم منذ الحرب العالمية الأولى، حين كان رفقة الإنجليز والأستراليين في صراعهم مع العثمانيين. ففي تلك الفترة العصيبة، دارت معركة كبيرة في محيط هذا الطريق بين القوات العثمانية من جهة، والإنجليز وحلفائهم من جهة أخرى، وقد أطلق عليها بعض المؤرخين "معركة الجسور العشرة"، إذ كان الإنجليز يسعون للسيطرة على الجسور الاستراتيجية التي تربط الجنوب بالوسط ، لتمكين حركة إمداداتهم وتعزيز قوتهم في المنطقة.
وما زالت هذه المعركة حية في ذاكرة المكان. وفي روايتي "جبل التاج"، حاولت أن أستلهم من هذا التاريخ العميق تفاصيل تلك المعركة وأحداثها، لتكون شاهداً على صراع الإرادات وتاريخ الأرض العمانية. قد لا يعرف كثيرون اليوم تفاصيل هذه المعركة، ولكنهم بلا شك يسيرون على ذات الطريق الذي شهدها.
أما بالنسبة للاستراليين الذين كانوا رفقاء الإنجليز في تلك الحرب، فقد أطلقوا على هذا الطريق اسم "طريق الجِمال"، الذي يبدو أنه سمي كذلك بعد أن كانت الجِمال هي الوسيلة الرئيسية للنقل، ورفيقتهم في تلك الأيام المرهقة. كانت الجِمال تتحمل عناء السفر عبر هذا الطريق الوعر، الذي كان ولا يزال يحمل في طياته أسراراً من أزمنة مختلفة، بدءاً من الرومان وصولاً إلى العصر الحديث.
ولكن في عمق هذا الطريق، لا يقتصر الأمر على التاريخ العسكري أو التجاري فحسب. إنه طريق ذاكرة وتاريخ ثقافي. فبالإضافة إلى حضارات بني عمون واليونان والرومان، كانت هذه الأراضي مأوى للعديد من الشعوب التي عاشت فيها، من العرب الأوائل إلى مختلف الأقوام التي تعاقبت على هذه البقعة من الأرض. كانت عمان دائماً ملتقى حضارات وأرض لقاء بين الشرق والغرب، بين البداوة والحضارة، وبين التقاليد والحداثة.
اليوم، عندما نمشي على هذا الطريق، نرى آثار ذلك الزمن البعيد تتناثر هنا وهناك. ونشعر وكأننا نعيد خطى الطفولة، كما لو أننا نحاول أن نعيد اكتشاف ذاكرة هذا المكان. في كل زاوية، وفي كل حجر، وفي كل نسمة هواء، هناك شعور غريب وكأن الزمن يعيد نفسه. قد نتوقف قليلاً للتأمل في هذا الطريق، ونطرح على أنفسنا السؤال: ماذا لو كنا هناك، في تلك الأيام القديمة؟ ماذا لو كنا نشهد تلك المعركة الضارية، أو نستمع إلى أصوات الجِمال وهي تعبر الجسر؟
إن طريق الجِمال في عمان هو أكثر من مجرد شريان للتجارة أو طريق للمعركة؛ إنه صلة بين الماضي والحاضر، بين الزمان والمكان، بين الأجيال التي مرت، والتي ستمضي. إنه سرد حكاية عمان بكل تفاصيلها، ومشهد من تاريخٍ غني بالأحداث، والذكريات، والآلام. ومن خلاله، نتعلم أن الجِمال لم تكن فقط وسيلة نقل، بل كانت جزءاً من تاريخ هذه الأرض، وهي التي حملت الكثير من معاناتها وآمالها.
وفي نهاية المطاف يبقى سؤال واحد يُطرح: أين أنتم الآن يا مارّين على هذا الطريق؟ هل تظنون أنكم فقط تسيرون في طريق عادي؟ أم أنكم تمشون على جسر بين حضاراتٍ قديمة، وأحداثٍ غيرت وجه التاريخ؟