مُطاردون بِأعين القانون .. مُحَصنون بسياج السياسة ..
محمود الدباس - ابو الليث
22-11-2024 08:05 PM
في زوايا العدالة الدولية.. حيث تسعى الشعوب المضطهدة إلى استرداد حقوقها بأدوات القانون.. يأتي قرار محكمة الجنايات الدولية.. بإصدار مذكرة اعتقال بحق شخصيات قيادية في الكيان الإسرائيلي.. مثل نتنياهو وغالانت ليشكل نقطة تحول في المشهد السياسي والقانوني.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة.. ما أهمية مثل هذا القرار؟!.. وهل يحمل إمكانية واقعية للتنفيذ؟!..
حين تصدر مذكرة اعتقال دولية.. فإنها تحمل في طياتها رسالة رمزية بالغة القوة.. فهي تُعرّي الصورة التي يسعى هؤلاء القادة إلى ترسيخها.. بأنهم فوق المحاسبة.. كما أن القرار يضعهم في موقف محرج دولياً.. حيث يتحولون إلى شخصيات مطلوبة ومُطاردَة.. قد تتعرض للتضييق في تحركاتهم الخارجية..
فالرمزية هنا.. تتجاوز قدرة المحكمة على التنفيذ.. لتصل إلى كشف النقاب عن ازدواجية المعايير.. التي تحكم السياسة الدولية.. ورغم ذلك.. تبقى فعالية هذا القرار رهناً بالإرادة السياسية للدول.. إذ أن الدول الكبرى.. التي تحمل مفتاح التنفيذ.. غالباً ما تنحاز إلى مصالحها وتحالفاتها.. كما هو الحال مع بريطانيا وفرنسا اللتين ورغم دعمهما للكيان الإسرائيلي.. لم ترفضا القرار بشكل صريح.. ومع ذلك.. لا يمكن تجاهل الأثر النفسي والسياسي لهذه الرمزية.. فهي تجعل من القادة المستهدفين أسرى لمخاوف.. قد تحد من قدرتهم على اتخاذ قرارات حرة.. أو الخروج من إطار الدول الحليفة..
لكن اللافت للنظر في هذا السياق.. هو موقف الأردن.. الذي أيد هذا القرار.. وطالب بتطبيقه بشكل واضح وصريح.. ورغم وضع الأردن الحساس.. والذي يرتبط بمعاهدة سلام مع هذا الكيان.. وتربطه به مصالح عديدة.. تحديداً تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية.. وجهود الإغاثة الدولية.. والتي قد تتضرر جراء مثل هذا الموقف.. إلا أن الأردن اختار الوقوف مع القانون الدولي.. وتطبيقه على الجميع دون استثناء.. هذا الموقف لا يعكس فقط التزاماً بالقيم الإنسانية.. بل يحمل رسالة أعمق.. بأن الانحياز للحق يمكن أن يكون سبيلاً لتعزيز السيادة الوطنية.. والمصداقية الدولية.. وهو موقف يبرز وسط بحر من المواقف المترددة أو المنحازة التي تتحكم فيها المصالح الآنية..
أما عن إمكانية اعتقال نتنياهو وغالانت فعلاً.. فالواقع يقول إن ذلك صعب في ظل الحماية السياسية التي يوفرها لهم حلفاؤهم.. ومع ذلك.. فإن إمكانية التنفيذ ليست معدومة.. فالتاريخ يشهد باعتقال شخصيات بارزة.. مثل ميلوسيفيتش والبشير.. رغم كل الضمانات السياسية التي كانت تحيط بهم.. وهذا يعني أن الظروف قد تتغير مع تغير المعادلات السياسية الدولية.. أو الضغوط الشعبية على حكومات الدول المؤثرة.. ومع كل ذلك.. يظل صدور مذكرة الاعتقال سابقة خطيرة.. تجعل القادة المستهدفين في دائرة الشك والملاحقة الدائمة.. وتدفعهم إلى تضييق نطاق تحركاتهم وتحصين أنفسهم سياسياً.. مما قد يضعف موقفهم داخلياً ودولياً..
أما عن كيفية تصرف نتنياهو وغالانت لتجنب الاعتقال.. فمن المتوقع أن يعمدوا إلى تعزيز تحالفاتهم الدولية بشكل أكبر.. وأن يعملوا على إضعاف قرار المحكمة من خلال التشكيك في مصداقيتها.. واتهامها بالتحيز.. كما أنهم قد يلجؤون إلى تضييق نطاق تحركاتهم.. ليقتصر على الدول الحليفة.. التي تضمن حمايتهم.. في حين سيعمل الكيان الإسرائيلي كدولة على ممارسة ضغوطه عبر اللوبيات السياسية والإعلامية.. لتجميد تنفيذ القرار أو حتى إلغائه..
وفيما يتعلق بالتصور المنطقي والسياسي.. الذي يمكن الخروج به من هذا المشهد.. فيتطلب التفكير خارج الصندوق.. ينبغي التركيز على تقوية الأدوات الشعبية والدبلوماسية.. للضغط على الحكومات الغربية.. لتبني مواقف أكثر عدالة وإنصافاً.. فالدول الداعمة للكيان الإسرائيلي.. ليست بمعزل عن شعوبها.. وحركات المقاطعة والاحتجاجات الشعبية.. قد تكون سلاحاً فعالاً لتغيير مواقف هذه الدول تدريجياً.. ومن الأمثلة البارزة على ذلك.. نجاح حركات المقاطعة العالمية مثل حركة BDS.. التي استطاعت دفع شركات وحكومات إلى مراجعة مواقفها وتغيير سياساتها.. كما أن الدول العربية والإسلامية.. بحاجة إلى توحيد جهودها على الساحة الدولية.. لاستغلال هذا القرار كفرصة لإعادة فتح ملف الجرائم الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي..
ختاماً.. العدالة الدولية ليست مجرد حلم بعيد.. بل هي معركة تحتاج إلى إرادة سياسية.. ودعم شعبي.. وإن كان قرار المحكمة خطوة صغيرة.. فإن مواقف شجاعة كتلك التي أبدتها الأردن.. قد تكون المفتاح لتحويل الحلم إلى واقع ملموس.. فالعدالة ليست مستحيلة.. لكنها تحتاج إلى من يؤمن بها.. ويعمل لأجلها..