العمل والتقاعد والصحة النفسية
تيسير الياس شواش
20-11-2024 07:40 PM
تشير مشاهداتنا لتطورات مراحل الحياة لدى المعارف والأقارب والأصدقاء في مجتمعنا الأردني بأن الإحالة إلى التقاعد تعتبر مشكلة لدى المواطنين ، وخصوصا في الظروف الاقتصادية الراهنة التي تشكل ضغوطا نفسية كبيرة على المواطنين وخصوصا أرباب الأسر لتأمين لقمة العيش الكريم والإحساس الدائم بوجود هدف للحياة
وما يزيد من صعوبة المرحلة التي يمر بها المتقاعد في الأردن عدم يوفر إجراءات تهيئة مسبقة للعاملين في مؤسساتنا الوطنية سواء كانت مدنية أو عسكرية أو في القطاع الخاص بغية الاستعداد والتخطيط وتقبل فكرة التقاعد.
كما قد لا يتوفر للمتقاعدين امتيازات وأساليب رفاه مناسبة تتلائم مع أنماط المنافع والمكتسبات المهنية والحياتية التي عاشوا ضمن سياقها في فترة العمل الإنتاجي.
ولكن السؤال الذي يهمنا هو هل يظهر على المتقاعدين جميعهم ردود فعل نفسية اجتماعية سلبية بعد التقاعد، وهل يمكن أن تكون مرحلة التقاعد ذات طبيعية إيجابية؟
لا شك أن العمل هو مصدر رزق وأمن، وتلبية احتياجات الإنسان وأسرته وبه يحقق ما يصبو إليه من إنجازات خلال خدمته وما يضمن له ولعائلته حياة مشرفة وكريمة.
كما يعتبر العمل مصدراً أساسياً لتحقيق الصحة النفسية السليمة، وخصوصا إذا ما توفر الرضى الوظيفي والتكيف النفسي في العمل حيث يحقق الشخص ذاته، ويشعر بالثقة والإنجاز والأهمية. ومن خلال العمل يطور الشخص علاقات اجتماعية جديدة. والحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها هي أن هذه المرحلة تنتهي يوما ما، وبعد فترة استيفاء الخدمة يحال الشخص إلى التقاعد أو الضمان وفقا لنظم وقوانين خاصة.
خاصة أن الفكرة التي تكمن وراء التقاعد هي توفير حركة عمالة مستمرة باستبدال العاملين بعد بلوغهم سن معين بعاملين أصغر سناً ممن قد يكونون أكثر طاقة وأفضل إنتاجية.
مفهوم التقاعد
مفهوم التقاعد يعني الانفكاك أو إنهاء العمل سواء بشكل اختياري او غير اختياري من صفوف القوى العاملة في مؤسسة ما وفق نظم وقوانين خاصة. وغالباً ما يُتَّخَذ قرار التقاعد وفق عوامل مختلفة منها ما يتعلق بالسياسة العامة للمؤسسة، استيفاء مدة الخدمة المطلوبة، تقيم الأداء والرضا الوظيفي وأحيانا نتيجة الحالة الصحية والاقتصادية للمتقاعد ورغبته الذاتية بإنهاء عمله.
وحسب المشاهدات والدراسات تختلف الآثار النفسية الاجتماعية للتقاعد تبعاً لعوامل متنوعة منها
1-استعدادات المتقاعد المسبقة ومدى التقبل والتكيف مع هذا التغيرات المرافقة.
2-مستوى الكفاءة والخبرات المكتسبة والمؤهل العلمي وعمر المتقاعد ووضعه الاقتصادي والاجتماعي.
3-تأثير الثقافة المجتمعية ونوعية ردود الفعل المجتمعية حيال المتقاعد
4-ظروف التقاعد إذا ما كان اختيارياً أو غير اختياري، خصوصاً كأن يكون التقاعد مفاجئاً وغير متوقع.
5-سماته الشخصية قبل التقاعد ومنها مستوى التهيئة النفسية والصلابة النفسية.
وقد اعتبر بعض المختصين أن مرحلة التقاعد هي من الخبرات الصادمة Traumatic experience في الحياة، والتي تشكل مصدر ضغط نفسي لأغلب المتقاعدين وعائلاتهم، خصوصاً إذا لم يسبق التقاعد تهيئة، وجاءت الإحالة على نحو مفاجئ .
وقد تم تقسيم ردود الفعل النفسية للتقاعد في مثل هذه الحالة إلى أربع مراحل هي: مرحلة النكران، ومرحلة المقاومة، ومرحلة الاستكشاف، ومرحلة التكيف وتقبل الواقع.
ليس من الضرورة أن تظهر ردود فعل سلبية لدى كل من تقاعد. ولكن ما يتم توثيقه هي أعراض قد تظهر لدى البعض. فقد وجدت بعض الدراسات أنه قد رافق التقاعد المفاجئ أحيانا- فقدان الشعور بالأمان Lack of security نتيجة الانفصال المفاجئ عن المؤسسة التي احتضنت المتقاعد لسنوات مما يتبع ذلك من رد فعل طبيعي يتمثل بمشاعر القلق والتوتر.
وبالإضافة إلى ما سبق هنالك المعاناة من مشاعر الخوف من الفشل المستقبلي Fear of failure كون المتقاعد لم يهيئ نفسه، ولم يعد خططا مستقبلية، فتراوده الأفكار والتوقعات السلبية والمتمثلة بعدم النجاح خارج المؤسسة. وقد لوحظ ازدياد الأفكار والمفاهيم السلبية؛ مما يقود إلى زيادة القلق والتوتر، والتأثير المتسبب بانخفاض المعنويات والمعاناة من ردود فعل اكتئابية.
يرى ميللر بأن التقاعد يشكل أزمة هوية Identity crisis عند البعض حيث يتم فقدان المركز والهالة والهيبة التي ارتبطت بالشخص مع المهنة ، مما يقود البعض إلى مشاعر العجز وتدني احترام الذات.
أشارت بعض الدراسات الغربية إلى ظهور حالات من الاضطرابات التي قد ترافق التقاعد منها ازدياد حالات الاكتئاب والقلق وكذلك حالات الانتحار وازدياد المشاكل الزوجية وتعاطي الكحول خصوصاً إذا كان التقاعد غير اختياري.
ردود الفعل الاجتماعية حيال المتقاعد
للأسف يلعب بعض أفراد المجتمع من النفعيين وأصحاب النظرة السطحية دورا سلبيا أحياناً في تعزيز الضغط النفسي على المتقاعد حيث نرى تحولاً مباشراً في اتجاهاتهم نحو المتقاعد من حيث تبدل المعاملة، وإنقاص إظهار الاحترام والتقدير له لكون مصالحهم قد تأثرت بغياب المتقاعد عن أداء دوره الوظيفي وهذا ما يشير إلى تزايد حالات النفاق الاجتماعي
كما تظهر أيضا بعض المشاعر السلبية من قبل الزوجة والأبناء على المتقاعد نتيجة التغيير الذي لحق به وبمركزه حيث يتم ذلك من خلال ردود فعل سلبية على مستوى الأسرة وتغير في معاملة الأب المتقاعد باعتبار أنه لم يعد منتجاً، ولم يعد له التأثير السابق. ولا شك أن مثل هذه السلوكيات سيكون لها أثر نفسي سيئ على المتقاعد، حين يخذله أقرب الناس إليه.
بعد توضيح الآثار النفسية السلبية لمرحلة التقاعد في الفقرات السابقة من الضروري تقديم بعض التوصيات للجهات المعنية والتي لها تأثير على خيارات المتقاعد وتهيئته النفسية وفرصه المستقبلية:
1-يجب على المسؤولين في جميع مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة العمل على إيجاد برنامج توعوي يهدف إلى تهيئة العاملين لهذه المرحلة والتعرف على كيفية التعامل مع الأعراض النفسية التي قد ترافق التقاعد.
2-نوصي دوما إعادة الفضل لأهل الفضل، حيث أن فضل المؤسسة التي عمل بها المتقاعد يعتبر كبيرا وقاد إلى إتاحة فرص تنمية وتطوير المعارف والخبرات النظرية والعملية، والتي تتيح للمتقاعد العمل في مجاله أو تخصصه إذا رغب في ذلك.
3-يجب إيجاد وتفعيل أندية المتقاعدين لجميع المؤسسات الحكومية في كافة المحافظات ، وذلك بالاقتداء بمبادرات القوات المسلحة الأردنية التي أوجدت في كل محافظة ناد للمتقاعدين العسكريين تعمل على الاهتمام بشؤونهم ورعايتهم.
4-العمل على إشراك المتقاعدين في أنشطة ترويحية وتأهيلية مختلفة في جميع محافظات المملكة.
5-إيجاد امتيازات للمتقاعدين سواء في استخدام النقل العام أو أماكن الترويح أو المشتريات أو المعالجات الطبية إلخ.
6-نوصي دائما التذكير بتقوى الله والتوكل عليه، وأن الله هو الرزاق الحكيم قال تعالى ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ الذاريات (23-22) .
الدكتور تيسير إلياس شواش
مستشار نفسي
مدير مركز المراد للاستشارات النفسية