كتلة العمل الإسلامي .. لم تكسب الرئاسة وربحت مصداقيتها
د. إبراهيم المنسي
19-11-2024 11:27 PM
في مشهد برلماني حُسمت فيه النتائج مسبقًا لصالح أحمد الصفدي، خاضت كتلة العمل الإسلامي انتخابات رئاسة مجلس النواب الأردني عبر ترشيح رئيسها الأستاذ صالح العرموطي، الذي يُعد من أبرز الفقهاء القانونيين وأعرقهم في الساحة السياسية. لم تكسب الكتلة رئاسة المجلس، كونها لم تكن بين يديها لنقول أنها خسرت بمعنى الخسارة، والتي حصل مرشحها على 37 صوتًا مقابل 98 صوتًا للصفدي، إلا أن هذه الخطوة تحمل أبعادًا أعمق من مجرد الأرقام، إذ عكست نضجًا سياسيًا واستقلالية أثارت إعجاب شريحة واسعة من المراقبين والجماهير.
قد يبدو عدم ظفر الكتلة في انتخابات الرئاسة مجرد إخفاق سياسي، إلا أن الأثر الشعبي لهذه الخطوة يروي قصة مختلفة تمامًا. الكتلة، التي تمثل نصف مليون ناخب منحوا ثقتهم لها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أثبتت من خلال هذه المشاركة التزامها بمبادئها وقيمها.
خوضها السباق الرئاسي لم يكن لتحصيل مناصب أو تحقيق مكاسب شخصية كون النتيجة محسومة مسبقا، بل كان رسالة واضحة لجمهورها بأن صوتها نابع من إرادة الناخبين وليس من صفقات أو مقايضات خلف الكواليس. هذا الموقف عزز من صورتها ككتلة برلمانية مستقلة، متميزة بأدائها ومتفردة برؤيتها السياسية، في مشهد غالبًا ما يهيمن عليه التوافقات المصلحية المرتبطة بسياقات ولوبيات متحكمة في البرلمان.
إحدى أبرز الرسائل التي أرسلتها الكتلة من خلال هذه الخطوة كانت تأكيدها على التماسك الداخلي. عبر الإجماع على ترشيح العرموطي والذي يعكس انسجامًا نادرًا بين أعضاء الكتلة، ويعزز ثقة القواعد الشعبية في وحدة موقفها السياسي. هذا التماسك يعطي إشارات مهمة عن قدرة الكتلة على الحفاظ على استقلاليتها والعمل بمنهجية متماسكة تعكس رؤيتها الوطنية.
بخلاف بعض الكتل التي اعتادت التحرك وفق مصالح آنية ومساومات تحت الطاولة، اختارت كتلة العمل الإسلامي السير في طريق مختلف، طريق يحمل بصمة الشفافية ويعبر عن استقلالية الأداء. هذه الخطوة وضعت الكتلة في موقع متميز، حيث أثبتت لجماهيرها أن تمثيلها البرلماني يرتكز على مبادئ صلبة لا تخضع للمساومات أو الإملاءات.
هي رسالة مدوية للجماهير بأن الكتلة تتحدث بصوتها، لا بصوت التفاهمات الخفية، لأن هذا النوع من التفاهمات يسهل الانقلاب عليه وثماره آنية، وهو ما يعزز ثقة الناخبين بها، ويكرس حضورها كطرف فاعل ومؤثر في المعادلة السياسية.
رغم الانتقادات التي وصفت خطوة الكتلة بالمراهقة السياسية وانها سنة أولى برلمان، فلا يصح أن يصدر هذا الوصف غير المنصف كون المشهد مقترنا بفتوى سياسية اجتهادية غير خاضعة لنص، إلا إذا من أطلق تلك الأوصاف يَعُدُّ ذاته مرجعيةً لإجماعٍ سياسي على مستوى الأمة. فلا تضيقوا واسعا، السياسة ليست مجرد معركة أرقام، بل هي عملية ديناميكية تستهدف تحقيق أهداف طويلة الأمد وبناء صورة قوية أمام الجماهير.
التهكم على مشاركة الكتلة يغفل حقيقة أن هذه الخطوة عززت حضورها الشعبي في ظل استحالة قبولها من دهاقنة الساسة المتحكمين، ولتأكيد مصداقيتها أمام نصف مليون ناخب. وحتى وإن لم تحقق الكتلة انتصارًا عدديًا في قبة البرلمان، فإنها انتصرت على مستوى الصورة العامة والسمعة الشعبية، فمن جاؤوا عبر الشَّعب يعبرون عن إرادة الشعب، ومن جاء عبر مسارٍ "ما" حتما سيعكس تحت القبة تعبيراً لإرادة ذلك المسار.
المشاركة في الانتخابات، رغم عدم الكسب، أضافت زخمًا سياسيًا يمكن للكتلة استثماره في المستقبل عبر:
تعزيز الثقة الجماهيرية: الجمهور بات يرى في الكتلة نموذجًا للاستقلالية والنزاهة السياسية، وهو ما يعزز ارتباطه بها.
خلق حالة من المزاحمة السياسية في تقديم الكتلة ذاتها بصورة منسجمة مع برنامجها الذي قُدمت شعبيا من خلاله.
استثمار صلاحياتها ككتلة عبر المشاريع البرلمانية بما يعزز من تميزها وبريقها الدائم، وبما يجعلها لاعبًا أكثر تأثيرًا في المشهد البرلماني القادم، في ظلال كتل اخرى جعلت من نفسها استخداما لمرة واحدة فقط "ديسبوسيبل"!
مرة اخرى، لم تكسب الكتلة الرئاسة، لكنها ربحت رهان الشارع وثقة نصف مليون ناخب يمثلون طيفًا واسعًا من الشعب الأردني. هذه الخطوة لم تكن مجرد مشاركة رمزية، بل كانت تعبيرًا عن رؤية سياسية واعية، وموقف صلب في وجه الإملاءات والصفقات.
السياسة ليست دائمًا تحقيق انتصارات فورية، بل هي بناء صورة ومكانة قادرة على تحقيق أثر طويل الأمد. وبهذا، تكون الكتلة قد نجحت في تثبيت موقعها كفاعل سياسي يوازن بين العمل البرلماني والمصداقية الشعبية.