في خطاب العرش السامي الذي ألقاه جلالة الملك عبدالله الثاني بمناسبة افتتاح الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة العشرين، رسم جلالته ملامح المرحلة المقبلة التي يسعى الأردن لتحقيقها من خلال التحديث السياسي والاقتصادي، والتأكيد على دوره الإقليمي المحوري. الخطاب لم يكن مجرد افتتاح لمرحلة تشريعية جديدة، بل كان بمثابة دعوة للعمل الجماعي والتعاون لمواجهة التحديات وترسيخ استقرار الوطن ومستقبله.
في مستهل خطابه، أشار جلالته إلى ضرورة تعزيز مسار التحديث السياسي الذي أُطلق مؤخراً، والذي يهدف إلى إعادة هيكلة الحياة السياسية في الأردن. هذا المسار يُبنى على أساس تقوية دور الأحزاب البرامجية وضمان مشاركة فعّالة للشباب والمرأة، ما يعكس رغبة القيادة في إحداث نقلة نوعية في طبيعة العمل السياسي الأردني. لا يمكن لهذه الرؤية أن تتحقق إلا من خلال أداء نيابي متميز يضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار ويؤسس لثقافة التنافس على البرامج والأفكار بدلاً من المصالح الفردية.
في الوقت نفسه، ركز الخطاب الملكي على الأبعاد الاقتصادية التي لا تقل أهمية عن الجانب السياسي. رؤية التحديث الاقتصادي التي تناولها جلالته جاءت كاستجابة مباشرة للتحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني، مشيراً إلى أن الإمكانات الأردنية، سواء البشرية أو الطبيعية، قادرة على إطلاق مسيرة النمو إذا تم استثمارها بالشكل الصحيح. الإصلاحات الاقتصادية المرتقبة ليست مجرد أهداف قصيرة المدى، بل هي خطة طموحة تمتد لعقد كامل، تهدف إلى تحسين معدلات النمو وخلق فرص عمل خاصة للشباب، مما يعكس حرص القيادة على تمكين الأجيال المقبلة وضمان مستقبل أفضل لهم.
من جهة أخرى، أكد الخطاب على أهمية تحديث القطاع العام كجزء مكمل لمسيرة التحديث الشاملة، مشيراً إلى ضرورة الالتزام بالكفاءة والعدالة في تقديم الخدمات للمواطنين. هذه الإصلاحات الإدارية ليست فقط متطلبات فنية، بل هي انعكاس لرؤية تهدف إلى بناء ثقة المواطن بالمؤسسات الحكومية وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.
إقليمياً، حافظ الخطاب الملكي على ثوابت الأردن الراسخة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. أعاد جلالته التأكيد على موقف الأردن الثابت بضرورة تحقيق السلام العادل والشامل الذي يضمن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. القدس، التي تشكل محوراً في السياسة الأردنية، كانت حاضرة بقوة في الخطاب، حيث شدد الملك على استمرار الوصاية الهاشمية عليها، باعتبارها مسؤولية تاريخية ودينية لا يمكن التفريط بها.
ما يميز الخطاب الملكي هو مزجه بين الواقعية والطموح، حيث أشار جلالته إلى الصمود الأردني في وجه التحديات الإقليمية والدولية، خاصة في ظل التصعيد الإسرائيلي والعدوان على غزة. الجهود الأردنية لم تقتصر على المواقف السياسية، بل شملت الدعم الإنساني والإغاثي، مما يعكس الموقف الأردني القائم على المبادئ الأخلاقية والإنسانية.
في ختام الخطاب، بعث جلالة الملك برسالة أمل وعزيمة، مؤكداً أن الأردن سيبقى وطناً عظيماً بقوة أبنائه وبناته. المستقبل الذي تطمح إليه القيادة ليس مجرد أحلام، بل واقع يُصنع بالإيمان والعمل المشترك، وهو دعوة صريحة لكل أردني لتحمل مسؤوليته في بناء هذا الوطن.
خطاب العرش السامي لم يكن مجرد كلمات عابرة، بل رؤية شاملة لمستقبل الأردن، رسالة تؤكد أن العمل والالتزام هما السبيل الوحيد لتحقيق الطموحات الوطنية. الأردن الذي تحدث عنه الملك هو الأردن الذي نصنعه معاً، حيث تتكامل الجهود لبناء وطن قوي قادر على مواجهة التحديات بثقة وعزيمة.