خطاب العرش .. رؤية ملكية مستقبلية مجبولة بالسياسية والإنسانية
سبأ خالد
18-11-2024 06:18 PM
في كل مرة، وقتما أتابع خطابات جلالة الملك عبدالله الثاني في مختلف المحافل، والتي تتميز برسائل واضحة تحمل معانٍ عميقة تتغير باختلاف الظروف والأزمنة، بيد أنها تلامس متطلبات المراحل التي نشهدها، أتأكد
أنها خطابات حقيقية تأتي من القلب إلى القلب.
فهي ليست مجرد كلمات بل بوتقة واقعية مصنوعة من اعتبارات ومداخل وطنية تستدل عنوانها من نبرة الصوت وتعابير الوجه التي تسطر حروف مجبولة بالإنسانية والإصلاح والتغيير.
وفي الحقيقة، إذا شاهدت أحد خطاباته دون سماع الصوت، ستتمكن بسهولة من استشعار العواطف والأفكار التي يود الملك نقلها لأبناء شعبه، وكأن هناك لغة غير مرئية تجسد مشاعره وأفكاره وهي لغة يفهمها الجميع دون الحاجة للكلمات.
عنوان الأمل كان جوهراً في خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني بمناسبة افتتاح الدورة العادية لمجلس الأمة العشرين والذي بدأ بكلمة "نأمل" بعد افتتاح المجلس وتهنئة أعضاء البرلمان الجدد وذلك في إشارة ما يدور ويجول في قلبه من طموحات، تترتب على عاتق المجلس الجديد في مسيرة البناء والتحديث، بشكل يتماهى مع متطلبات المرحلة.
اختيار الأمل في مقدمة خطابه تأتي انسجامًا مع طموحات القيادة الأردنية في تحقيق نقلة نوعية من خلال العمل الجماعي والتعاون بين جميع المؤسسات.
واستخدام جلالته لكلمة "نأمل" تحمل في طياتها دعوة للتفاعل والتجاوب من قبل البرلمان دون أن يكون هناك تأكيد قاطع مما يفتح المجال للتوقعات بإنجازات جديدة، ولا اعتقد انها شكًا في قدرات النواب بل توجيه للأمل نحو أداء أفضل خاصةً في ظل التحديات التي تمر بها المملكة.
وقد كان خطاب الملك بمثابة استكمال لخارطة طريق التحديث السياسي، حيث تركزت رسالته على دور الأحزاب السياسية وتفعيل المشاركة الفاعلة للشباب والمرأة في عملية اتخاذ القرار مشدداً على أن المجلس يمثل بداية لتطبيق مشروع التحديث السياسي وأشار إلى أن هذا يتطلب أداءً نيابيًا حيويًا يتسم بالنزاهة والشفافية.
ومن خلال هذا الخطاب يعكس جلالة الملك توجهًا نحو تعزيز العمل الجماعي ودعوةً لتوسيع دائرة المشاركة في الحياة السياسية الأردنية بما يتماشى مع التغيرات التي تشهدها المنطقة.
في إطار الإصلاحات الاقتصادية، أكد جلالة الملك على أهمية تسريع عملية التحديث الاقتصادي، مشيرًا إلى أن الهدف الرئيسي للمملكة هو تعزيز إمكانيات الاقتصاد الوطني وزيادة معدلات النمو في العقد المقبل.
وأكد جلالته على ضرورة الاستثمار في رأس المال البشري، مع التركيز على تمكين الشباب وإعدادهم لوظائف المستقبل.
وتأتي هذه الدعوة لتشجيع دعم القطاعات الاقتصادية الجديدة وتطوير المهارات اللازمة لمواكبة التحولات الرقمية، مما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة وضمان رفاه المواطنين في المستقبل مع التركيز على الشباب الأردني كعنصر أساسي في الاستثمار الاقتصادي.
والتوجيهات المرادفة للإصلاح كانت محورًا أساسيًا في خطاب جلالة الملك، وذلك من خلال تأكيده على النواب والأعيان ليكون دورهم فعالًا بمراقبة الحكومة لضمان تنفيذ مسارات التحديث بشكل فعال.
وفي الوقت ذاته، شدد على أهمية التعاون الوثيق بين البرلمان والحكومة في إطار الدستور، مع التأكيد على أن التنافس بين البرامج وليس بين الأشخاص أو المصالح الخاصة هو السبيل الوحيد للوصول إلى نتائج إيجابية، وهذه رسالة تُعتبر بمثابة دعوة لإعادة هيكلة العلاقة بين الحكومة والبرلمان بحيث يسود التعاون والتفاهم المتبادل من أجل خدمة المصلحة العامة.
الخطاب لم يقتصر فقط على الداخل الأردني بل تطرق أيضًا إلى المواقف الثابتة في السياسة الخارجية، مع تأكيد جلالته على أن الأردن سيبقى دولة راسخة الهوية تحترم إرثها التاريخي وثوابتها، ولا تنحرف عن مبادئها.
جلالة الملك كما اعتدنا دومًا يؤكد على أن القدس والمقدسات ستظل أولوية في السياسة الأردنية، وأن المملكة ستظل حارسًا أمينًا للحقوق الفلسطينية من خلال الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
وأكد جلالته على موقف الاردن الثابت والمستمر في تقديم المساعدات لأهالي غزة فقد ذكر جلالته الجهود الجبارة التي قدمها أبناء وبنات الأردن في معالجة الجرحى وإيصال المساعدات جوا وبرًا في أصعب الظروف وهذه إحدى أهم الرسائل التي حملها الخطاب لكل مشكك في دور الاردن تجاه القضية الفلسطينية و هذه الرسالة تؤكد أن الأردن ليس مجرد دولة تسعى لتحقيق مصالحها الذاتية، بل دولة ملتزمة بدور إنساني على المستوى الإقليمي والدولي.
’’هؤلاء هم أبناؤكم وبناتكم، أدوا التحية للعلم ولبوا الواجب بكل شرف، وسيبقى جيشنا العربي وأجهزتنا الأمنية مصدر فخر واعتزاز لوطنهم وأمتهم. أنتم على العهد النشامى، النشامى’’، هذه الكلمات تحمل في طياتها معاني الولاء للوطن والتفاني في خدمته،
واستوقفتني عبارة "أداء التحية للعلم" التي وردت في خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني والتي تشير إلى احترام وتقدير رمز الوطن، وهو العلم الأردني، وأداؤها بشكل رسمي يعني تكريم سيادة الدولة ورمز هويتها الوطنية، ففي السياقات العسكرية أو الرسمية يُطلب من الأفراد الوقوف تحيةً للعلم أثناء رفعه أو عند تواجده في مناسبات وطنية، كعلامة على الولاء والاحترام للوطن
ربما كان أكثر المقاطع تأثيرًا في الخطاب هو تكرار جملة "النشامى النشامى"، وكلمة "نشمي" في اللهجة الأردنية تعني الشخص الشجاع والمخلص والهوية الثقافية الأردنية، فتكرار جلالته لهذه الجملة تدل على القيم النبيلة التي يتسم بها الأردنيون كما هي رسالة ثقة وتقدير لدورهم المستمر في حماية الوطن، وعندما يتحدث بها الملك دلالة على قربه من أبناء شعبه، مما يعزز من الروح المعنوية ويطمئن الشعب على استقرار الدولة وقوتها.
وما لفتني ايضًا حضور جلالة الملكة رانيا والأميرة رجوة وعدد من أصحاب وصاحبات السمو الأمراء والأميرات وهذا يحمل دلالات مهمة تعكس دور العائلة المالكة في ترسيخ القيم الوطنية وتعزيز الوحدة و يبرز التزام الأسرة المالكة بجميع أعضائها بالمشاركة في دعم المؤسسات الوطنية، كما ويؤكد على أهمية دور المرأة كشريك أساسي في الحياة العامة والتنمية الوطنية.
ويضفي هذا الحضور بعدًا رمزياً وشعبياً يعزز العلاقة الوثيقة بين القيادة والشعب، ويُظهر الوجه الإنساني للعائلة المالكة ويبعث برسائل تمكين تُبرز مكانة المرأة ودورها المحوري في بناء الوطن والمجتمع.
في الختام، لا يمكننا النظر إلى خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني كخطاب عابر بل كدعوة للتفكير العميق والعمل المشترك نحو المستقبل، فهو خطاب يلتقي فيه التوجيه السياسي مع القيم الإنسانية، حيث تبرز رؤية جلالته لتحديث المملكة وتعزيز مكانتها على الساحة العالمية، وكل كلمة في الخطاب تردد صداها من خلال تفاعل الشعب وهذا ما جعل الرسالة أكثر من مجرد كلمات، بل هو مشروع وطني يتطلب التفاني والالتزام من الجميع.