"بدّلت غزلانها بقرودها" .. مدى حكمة إسقاط الأمثال الشعبية على الواقع
د. ايهاب عمرو
17-11-2024 12:23 AM
لعلّي كنت، ولا زلت، من أشد المعجبين بالمَثَل الشعبي الأردني الشهير القائل "بدّلت غزلانها بقرودها"، خاصة أنني أمضيت فترة الطفولة والشباب في الأردن قبل مغادرتي إياها لاستكمال الدراسة الجامعية. وبعدما كبرت، ورأيت ما رأيت، من طغيان الشكليات والشكليين على بعض مناحي الحياة، إن لم يكن معظمها، في عالمنا العربي أدركت حكمة المثل المذكور.
ومن خلال إلقاء نظرة على الواقع المعاش، خاصة في عالمنا العربي، نلاحظ اختفاء العلماء والأدباء والمفكرين عن الساحة، ربما ليس بإرادتهم، وإنما لأسباب كثيرة لا داع للخوض فيها كلها، ومنها أن العوام في عالمنا العربي لا يدركون، مع الاحترام، قيمة العلم في نهضة المجتمعات وتطورها، وقيمة الفكر والأدب في تشكيل الهوية الفكرية المجتمعية، وفي رقي المجتمعات عموماً.
ولعلّ اللغة العربية، غنية الجذور، وعميقة الشعر والبحور، ساهمت في بروز شعراء يشار لهم بالبنان منذ العصر الجاهلي وحتى الآن. وأشعر أحياناً أن لدى بعض، إن لم يكن معظم، العوام للأسف مشكلة إما شخصية أو نفسية مع التميز ومع المتميزين في العلوم، وفي الأدب كذلك، ما يشمل الشعر والرواية. ناهيك عن حالة السطحية التي تطغى على مختلف مناحي الحياة في عالمنا العربي، إذ ما معنى أن يحقق مطرب/ة مغمور/ة لا يُعرف ما في رأسه يدور، ولا يفقه ما يقول، شهرة خلال فترة وجيزة أكثر من تلك التي يحققها أديب/ة أو شاعر/ة أو عالم/ة أو باحث/ة. والطامة الكبرى تكمن في أن الأبواب تفتح أمامه/ا على مصراعيها لزيارة الدول العربية كافة والتجوال فيها بحرية، في حين أن أكاديمي أو عالم أو شاعر أو أديب أو باحث ربما يحتاج إلى أن يتحمل بطء وتعقيدات الإجراءات البيروقراطية عند استخراج تأشيرة الزيارة، وسخافة وسطحية أسئلة بعض العاملين والعاملات في المراكز الحدودية والمطارات العربية على جهلهم، لا لشيء سوى لأنه (ارتكب خطيئة) بأن أصبح مفكراً أو أديباً أو شاعراً أو باحثاً.
وأتذكر ذات مرة أنني سألت بعض الطالبات أثناء عملي في إحدى الجامعات العربية سؤالاً حول الروائية الجزائية أحلام مستغانمي وفوجئت، دون أن أفاجِئ نفسي، بأنه لا توجد حتى طالبة واحدة تعرفها، وبالطبع لم أقم بسؤالهن عن تلك الفنانة الفلانية الهايفة، كوني كنت متيقناً من الإجابة. ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال عدم إيلاء الفنون أهمية، كون أن لبعض الفنانين والفنانات من أصحاب الهمم والقيم دوراً كبيراً في إعلاء قيم مجتمعية نبيلة، إنما القصد التمييز بين الغث والسمين من الفنانين.
ولعل بعض الجهات صاحبة الاختصاص في عالمنا العربي تساهم للأسف في بعض الأحيان في إعلاء شأن أشباه الفنانين والفنانات على حساب الأدباء والشعراء والعلماء والمفكرين، إذ ما معنى أن يتم تكريم شاب أو شابة من قبل الدولة لمجرد نجاحه/ا في برنامج للمسابقات الغنائية، واستقباله/ا استقبالاً حافلاً على المستويين الرسمي والشعبي يليق بإنجازاته/ا (العظيمة) التي لم تطور مجتمعاً، ولم تحل أزمة اقتصادية.
وأتذكر حالة استنفار المستويين الشعبي والرسمي أثناء مشاركة شاب فلسطيني في برنامج للمسابقات الغنائية قبل عدة أعوام دعماً له. كذلك، الاستقبال الرسمي والشعبي لشابة في المغرب بعد مشاركتها في الموسم الثاني للبرنامج المذكور. أيضاً، الاستقبال الحافل لشاب مصري بعد نجاحه في برنامج للمسابقات الغنائية قبل عقدين من الزمان في حين يتم التضييق على الأكاديميين والباحثين العرب والأجانب أثناء زياراتهم، سواء الشخصية أو البحثية، والقائمة تطول لكن الصورة هنا ربما تكون أوضح من الكلام.
خلاصة القول، تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى لإيلاء العلوم والأدب، والنوع الراقي من الفنون، الاهتمام الكافي على المستويين الرسمي والشعبي، ما يساهم في إعلاء شأن العلوم والأدب في المجتمعات العربية حتى يعود للعرب دورهم الطليعي بين الأمم. ولعلي أدركت بما لا يدع مجالاً للشك عند زيارتي للأندلس التي تقع في جنوب إسبانيا قيمة المساهمات العلمية، والفكرية، والبحثية للعرب وتأثيرها على العلوم في الغرب، خاصة قبل عصر التنوير "النهضة" في القارة العجوز، حيث كانت الأندلس تعيش في نماء وازدهار وتطور، في حين كان الغرب يعيش في ظلام دامس قبل أن تنتقل لهم تلك المساهمات والاكتشافات في مختلف الحقول العلمية، والفكرية، والأدبية، ما يشمل الطب، والفيزياء، والفلك، والبصريات، والفلسفة، والشعر، وفنون العمارة، ما يمكن القول معه أن العرب كانوا "صُنَّاع حضارة إنسانية" لا يزال الغرب يقتات عليها حتى الآن، ويستفيد منها في تقدمه العلمي، والتكنولوجي. ويحضرني قول لعميد الأدب العربي طه حسين رحمه الله مفاده: "عندما يكون الراقصات و(مهرجي) المهرجانات والمنافقين والأفاقين في الصف الأول حتماً سوف يكون مركزنا بين الأمم في الصف الأخير".