الرواشدة يكتب: العقدة التاريخية .. تفريغ الشعوب بين "عشرية الغزو والمقاومة"
حسن رواشدة
16-11-2024 01:44 PM
*أولوية المحافظة على الدولة.
منذ مطلع الألفية الجديدة، شكّلت الشعوب العربية ميدانًا مفتوحًا للمتغيرات الكبرى، من احتلال العراق وأفغانستان إلى ثورات “الربيع العربي”. كان الربيع في جوهره انعكاسًا لحالة جماعية من الغليان السياسي والاجتماعي، ناتجة عن تداعيات عشرية شهدت استفراد الولايات المتحدة بالعالم، وما حملته من استنزاف للمنطقة في حروب مكلفة بشريًا ونفسيًا.
شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين محطات فاصلة في تشكيل الوعي السياسي للشعوب العربية. غزو العراق عام 2003 كان نقطة ارتكاز لحقبة الهيمنة الأميركية المطلقة، حيث أُسقطت الأنظمة، وأعيد رسم الخرائط السياسية للمنطقة تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”.
على الصعيد النفسي، عايشت الشعوب العربية شعورًا مزدوجًا من العجز والغضب. سيطرت الصور المروعة للدمار في بغداد وكابول، وتعمقت مشاعر المهانة أمام انعدام القدرة على الفعل الجماعي. على مستوى أعمق، تحول الغضب المكبوت إلى طاقة تفاعلية ظلت تتجمع تحت السطح حتى جاءت اللحظة الفاصلة في 2010، حيث انطلقت شرارات “الربيع العربي”. كان هذا الربيع، في أحد أبعاده، عملية “تفريغ” لعقد من التوتر السياسي والاجتماعي الذي زرعه استفراد واشنطن بالقرار العالمي وأحادية القطب.
لاحقا تحول مركز الثقل السياسي في المنطقة من “الحرب على الإرهاب” إلى المواجهات الإسرائيلية مع غزة ولبنان. هذه المواجهات، التي اتسمت بوحشية الاستهداف الإسرائيلي، كانت بدورها انعكاسًا لتحولات أعمق في ميزان القوى الدولي والإقليمي.
على مدار السنوات، كانت غزة عنوانًا للصمود في وجه الحصار والتدمير الإسرائيلي الممنهج. المشاهد التي توثق الاستهداف العنيف للبنية التحتية والمدنيين تُبقي الذاكرة الجمعية للشعوب العربية في حالة تأهب دائم بينما اثبتت الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 أن المقاومة المنظمة يمكن أن تكون خصمًا فاعلًا لإسرائيل. هذا النموذج ألهم الجماهير العربية بأن التغيير ليس مجرد حلم، بل مشروع يمكن تحقيقه بالصبر والتنظيم.
هذه السنوات حملت معها شعورًا مختلفًا عن العقد السابق. لم تكن الشعوب العربية متفرجة بالكامل كما في الغزو الأميركي للعراق، بل بدت مرتبطة وجدانيًا بالمقاومة، ترى فيها نموذجًا للصمود والكرامة. ومع ذلك، كان لهذا الثمن النفسي كلفة ثقيلة، إذ تراكمت الإحباطات من غياب الحراك السياسي الفعلي لإنهاء المعاناة الفلسطينية واللبنانية.
إذا كان “الربيع العربي” في عشرية الغزو نتيجة لتراكم الغضب واليأس، فإن السؤال الآن: ما الشكل الذي سيأخذه تفريغ الشعوب بعد عشرية المقاومة والحرب على غزة ولبنان؟ في سياق الإجابة على هذا السؤال يمكن أن ألفت الى عدد من المحاور الهامة أولها: أن الأحداث الأخيرة قد تلهم نموذجًا جديدًا للمقاومة الشعبية العابرة للحدود، حيث تتجاوز الشعوب حكوماتها غير الفاعلة في تنظيم احتجاجات، مقاطعات اقتصادية، وحملات تضامن واسعة، ثانيها أن الشعوب التي عايشت الإحباطات الناتجة عن الصراعات قد تتجه لدعم تيارات سياسية أكثر ارتباطًا بقضية التحرر الوطني، بعيدًا عن الانقسامات الأيديولوجية، وثالثها أن الاستفراد الإسرائيلي وضعف الموقف العربي الرسمي في إطاره الجمعي قد يؤدي إلى انفجار داخلي جديد في بعض الدول، بينما يلفت الرابع الى توجه الشعوب الى استغلال الفضاء الرقمي لخلق تحولات نوعية في إدارة المعركة، سواء عبر كشف الجرائم الإسرائيلية عالميًا أو تنظيم الدعم المالي والسياسي للمقاومة.
السؤال الجوهري ليس فقط كيف ستفرّغ الشعوب غضبها، بل هل ستكتفي بالتفريغ أم ستنتقل إلى بناء بدائل سياسية واجتماعية حقيقية؟ عشرية الحرب على غزة ولبنان أعادت تشكيل الوعي العربي، لكنها أيضًا أظهرت حدود الحراك الشعبي إذا لم يكن منظمًا ومترابطًا.
الشعوب العربية اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تواصل الانفجارات الموسمية التي تنتهي غالبًا بإعادة إنتاج الأزمات، أو أن تستثمر حالة الغضب الجمعي في بناء مشروع تحرري يربط بين أولوية بناء الدولة والمحافظة عليها وتحرير الأرض.
التفريغ القادم لن يكون مجرد تعبير عن الغضب، بل قد يحمل معه ملامح حقبة جديدة تتحدد ملامحها بناءً على وعي الشعوب بقدرتها على التحرك الجماعي. الحرب على غزة ولبنان ليست فقط حربًا على الأرض، بل على الوعي والهوية، وما ستفرزه هذه العشرية سيحدد مستقبل المنطقة لعقود قادمة غير أن على القوى السياسية ومراكز الدراسات والفاعلين وكذلك المؤسسات التركيز هنا على أهمية المحافظة على الدولة وتقويتها.